الأيام الماضية كانت من أصعب أيام حياتي إيلاماً ووجعاً وحزناً، إذ فقد الوطن وفقدت في وقت قصير ثلاثة من أنبل وأصدق الرجال الذين عرفتهم خلال مراحل مختلفة من العمر. ليس الموت وحده ما يؤلم ويوجع فهو حق مقدر علينا جميعاً، علينا أن نتوقعه في أي وقت وحين، فقط علينا أن نصبر ونحتسب فكلنا إلى الله راجعون. المؤلم والمحزن والأكثر وجعاً هو هذا الرحيل لقامات الوطن الذين افنوا أعمارهم في خدمته بسخاء كل في مجاله، لكنهم في اليوم الذي أدوا فيه رسالتهم، أو كادوا، أزيحوا إلى زاوية مظلمة، لا معاش يعينهم على ما تبقي لهم من عمر، أو على العلاج في مرضهم، لا تقدير من الدولة، ولا ضمان صحي أو اجتماعي من مؤسساتهم، ونقاباتهم. كل ما يحصلون عليه التعفن، تفتك بهم الأمراض، والوحدة والإهمال وقلة الحيلة.
أتحدث هنا عن رحيل ثلاثة نماذج فقط خلال الأيام الماضية، لكن الحالة صارت عامة ولم تعد تخص عدداً محدوداً بعينه من أبناء هذا الوطن المثقل بالحروب وآثار الصراعات والآلام والوجع والتعاسة.
وأبدأ بذلك الرحيل الفاجع والمؤلم لزميلنا الكاتب والاعلامي والصحفي الكبير سالم الفراص، الذي وافاه الأجل المحتوم في الهند حيث كان يتلقى العلاج على نفقته الخاصة، وتم حجز جثمانه في المستشفى مالم تسدد أسرته ما بقي عليه من تكاليف العلاج وهو ما عجزت عن تسديده زوجته المرافقة له في رحلته الأخيرة كما رافقته في كل مسيرة حياته. فهل هناك ما هو أكثر إيلاماً من مصير كهذا في بلد غريبة؟! وهل هذا جزاء علم من أعلام الوطن والصحافة والكتابة الإبداعية، أفنى جل عمره في الكتابة من أجل الوطن والمواطن وقضايا الناس الذين كان منحازا لهم، يعبر عنها ويدافع عنهم في مقالاته وقصصه ورواياته.
الرحيل الثاني والفاجع كان للصديق والزميل الباحث في مركز الدراسات والبحوث اليمني محمد الشعيبي الذي رحل في صنعاء بعد صراع مرير مع المرض، كانت أسرته الراعية الوحيدة له والسهر على مرضه لا الدولة الغائبة بينما المسؤولون مشغولون بقضاياهم الخاصة. على حد تعبير أستاذنا عبدالباري طاهر.
الفقيد الشعيبي خريج الاتحاد السوفيتي. في موسكو حيث كان يدرس، وأعمل مستشاراً إعلامياً في سفارة اليمن الديمقراطية، تعارفنا وتحابننا وصرنا أصدقاء، نلتقي أغلب الوقت في منزل صديقنا المشترك السفير عبدالله الحنكي القائم بأعمال سفارتنا مع الصديقين الدكتور مرشد شمسان، والدكتور سلطان المعمري” ابو حديد” وثلة من الاصدقاء. الشعيبي إنسان ودود دائم الابتسامة، صادق ووفي ويدخل القلب بسرعة لا يمكن إلاٌ أن تحبه لصراحته وصدقه، وقضينا في موسكو بعض أجمل سنوات العمر، ثم تجددت وتوثقت علاقتنا أكثر في صنعاء، حيث كنا نلتقي بصورة يومية تقريباً في مقيل منتدى الجاوي.. فكان نجماً من نجومه، بصراحته وصوته المجلجل، يبهر المنتدى كما وصفه بحق الأستاذ عبدالباري طاهر في نعيه للفقيد الذي زامله في مركز الدراسات والبحوث اليمني، هنا أيضاً “كان محل حب واحترام زملائه الباحثين. يناقش بصوت مسموع وقلب نقي شديد الحب والاعتزاز بزملائه في المركز، يدافع عن قضاياهم ويحمي حقوقهم، يتكلم بعفوية وتلقائية ملؤها الصراحة والصدق كل ما في أعماق قلبه على طرف لسانه باطنه كظاهره، صادق وأمين يحب ويحب، لا تراه إلا مبتسمًا غاية في الود والوفاء”. ولن أجد أفضل مما وصفه به أستاذنا عبد الباري طاهر أطال الله في عمره.
الرحيل الثالث المؤلم والموجع، كان لفقيد التربية والتعليم، الأستاذ عبد الحافظ عبد الرب الحوثري، الذي انتقل إلى جوار ربه في مسقط رأسه بمدينة الديس الشرقية، بعد حياة حافلة بالعطاء التربوي والأكاديمي والوطني.
الفقيد كان علماً من أعلام حضرموت، ومن أوائل المبتعثين في مجال العلوم البترولية والكيمياء، حيث تخرج في جامعة الخرطوم، ثم حصل على دبلومَي تربية عام وخاص من جامعة عين شمس بالقاهرة، وكرّمه الزعيم الراحل جمال عبدالناصر في عيد العلم. وواصل مسيرته العلمية ليحصل على درجة الماجستير من جامعة القاهرة. وحضر لنيل درجة الدكتوراة من جامعة كارل ماركس بمدينة ليبزيج في المانيا الشرقية في نفس التخصص.
منذ كنا تلاميذ في ابتدائية الديس، كان الأستاذ الحوثري مصدر إلهام لنا، ومحل انبهارنا، بأناقته ووسامته، وفوق هذا بعلمه وتواضعه الجم، وهي صفات حميدة رافقته طوال حياته، عرف بذكائه الوقاد، وشغفه بالعلوم وخاصة الكيمياء، وهو أمر نادر في ذلك الوقت، برع فيه ووظفه بعد تخرجه في تطوير التعليم في حضرموت. درس في مدرسة حنتوب الثانوية بالسودان عام 1956م إذ كان من أوائل المبعوثين إليها أيام السلطنة القعيطية التي كانت تولي للتعليم أهمية خاصة، فعمل أولاً معلماً للرياضيات في وسطى الغيل التي تعلم فيها، وعيّن كأول مدير وطني لثانوية المكلا، عام1962م، ثم عاد وشغل مواقع قيادية في سلك المعارف والتربية والتعليم، منها مدير عام مكتب التربية والتعليم بحضرموت، ومدير عام المناهج في عدن بعد الاستقلال عام 1967م حين كان وكيل الوزارة الشاعر الأستاذ لطفي جعفر أمان، ووزيرها الدكتور محمد عبدالقادر بافقيه.
كما كان أحد مؤسسي الصرح الجامعي في حضرموت، ليكون أول عميد لكلية التربية بالمكلا – جامعة عدن في سبعينيات القرن الماضي.
ترك الفقيد إرثاً علمياً ثرياً، من خلال تأليف عدد من الكتب المنهجية في الكيمياء، من أبرزها: “الكيمياء العضوية” و”الكيمياء العامة”، والتي ظلت مراجع مهمة للدارسين في كليات التربية والعلوم، وانتفعت منه أجيال من الدارسين.
كان الأستاذ عبد الحافظ الحوثري مثالًا في التواضع والعطاء، وعاش حياته صامتاً عامراً بالإنجاز، ورحل محتسباً الأجر من ربه، بعد معاناة صامته وصبورة مع المرض، تاركًا بصمة لا تُنسى في قلوب طلابه وزملائه وكل من عرفه” كما وصفته بحق بيانات النعي في الراحل الكبير والعالم الجليل الحوثري.
تصوروا أن هذا العلم والعالم تقاعد عام 2009م بدرجة استاذ مساعد وكان يستحق الاستاذية بجدارة.
أهكذا نكافئ رموزنا العلمية والأدبية والصحافية؟!
أهكذا...؟!!
في هذا المقام العصيب والمؤلم لا يحضرني إلا العنوان الذي اختاره الأديب والشاعر والسفير السوداني الراحل سيد أحمد الحاردللو لمجموعته القصصية ( يلعن أبوكي بلد) التي كانت من أولى ما قرأته لهذا الأديب السوداني الكبير..
وما كان حاردللو يقصد بلده العظيم بذلك العنوان اللافت والصادم للبعض بقدر ما كان يعني المدينة التي انتقل إليها تتسع للجميع ومع ذلك لا يجد فيها بطل القصة مقعدا واحدا يتكئ عليه، ولا يملك إلا النظر إليه من بعيد..
رحم الله الحاردللو ورحم رموزنا الأجلاء الذين رحلوا بعد أن اعطوا الوطن كل شيء ولم يعطهم أي شيء..
هل هذا هو الوطن الذي حلموا به، حلمنا به، وحلم به شعبنا الطيب الصبور؟
أهذا الوطن الذي سقط من أجله الشهداء والجرحى وسفكت الدماء الزكية لشرفاء أبنائه؟!
أهذه الحرية التي حلموا، حلمنا بها وقدموا الغالي والنفيس؟!
أي وطن هذا لا يجد فيه المواطن لقمة عيش نظيفة، ولا كرامة؟!
أي وطن هذا لا يجد فيه الموظفون عسكريين ومدنيين رواتبهم رغم ضآلتها، وبالكاد لا تكفيهم لشيء؟!
أي وطن هذا لا يجد فيه أبناؤه مدارس يتعلمون فيها، والتعليم فيه في أدنى درجات السلم؟
أي وطن هذا الذي مدرسوه بلا راتب، وراتب المدرس فيه لا يكفي لشراء سكبتي رز؟!
أي وطن هذا الذي بلا كهرباء ولا ماء وعملته فيه في الحضيض؟! وأسعاره في جنون؟!
لابد أن هناك شيئاً خاطئاً حصل فيه وله، غفلنا عنه، أو ساهمنا فيه بأخطاء البعض منا، وسلبية وصمت الأغلبية منا ؟!!
لا ليس هذا الوطن الذي حلمنا به ! ومع ذلك أقول كما يقول صديقي ابن الركية علي بن ثابت في نهاية كل مقال من مقالاته : (أحبك يا وطني !!)
لا نكرهك يا وطننا الجميل والرائع، لكننا نكره حتماً بكل ما تحمل الكراهية من معنى، كل أولئك الذين سرقوا منا الوطن ويريدون تشويه صورته، صورتك في عيوننا وعيون المخلصين من أبناء شعب المعجزات..
لا نكره الحرية، لكننا نكره من كل قلوبنا العبودية، نكره السجن والسجان، ولصوص الوطن أيّا كانوا..
أحبك يا عبد الحافظ الحوثري ..
أحبك يا محمد الشعيبي ..
أحبك يا سالم الفراص..
أحبكم جميعاً لأنكم كنتم المثال الرائع الذي أحببنا من خلالكم الوطن كما حلمنا به، وكما نريده في كل وقت، وسنستعيده في يوم، من يدري لعله يكون قريباً جداً. وليس ذلك على الله ببعيد، وارادة الشعوب من إرادة الله.