لا يمكن للمكونات السياسية والعسكرية والادارية التي تنتمي للدولة الشرعية، وتشكل الهيكل الخارجي لها، أن تحمي نفسها وكل ما هو تحت يدها من مقدرات، إلا بأدوات الدولة ومؤسساتها، وعلى الجميع أن يدرك هذه الحقيقة الآن قبل فوات الأوان، فقد لا تكون هناك فرصة أخرى لتداركها .
كل من يتولى مؤسسة، أو يقف على رأس منطقة جغرافية، أو مكون سياسي وعسكري، أو يقود قوة عسكرية، أو يؤسس لمشروع سياسي، لن يكتب له النجاح في حماية، أو الدفاع عما يقع تحت يده إلا بالانخراط الكامل في منظومة الدولة، والعمل من خلال آليات هذه المنظومة دون التذرع بأي ذريعة مهما كانت وجاهتها .
وحتى لو حققت قياداتها بعض النجاحات، فلن تكون سوى نجاحات مؤقتة، ولن تستطيع أن تحمي نفسها على المدى البعيد بدون الدولة . بل وقد تكون سببًا في تكريس ضياع الفرصة لالتقاط اللحظة المناسبة لحسم المعركة واستعادة الدولة . “التقاط اللحظة” هي من أهم وظائف مركزية قيادة المعركة، وهي عملية متداخلة وذات ديناميات تفرض بالنتيجة تعزيز مركزية القرار الاستراتيجي، لا توزيع “دمه بين القبائل”.
أيّ مكوِّن يواصل عمله خارج رحم الدولة، أو بمعزل عن منظومة الدولة القانونية والسياسية والإدارية، لن يستطيع أن يوفر مقومات بقائه على قيد الحياة مهما كانت النوايا مخلصة، وأيًا كانت الحجة التي يستند عليها في تبرير هذه الوضعية، ومهما كانت إيجابية النتائج التي تتحقق على الصعيد الخاص “ المنعزل”.
لنقرأ المشهد كما يجسده الواقع لندرك الحقيقة التي أخذت تستقر عندها هذه الاوضاع .
في المعركة المصيرية، التي يخوضها الجميع اليوم، تكون الأولوية لكل المنخرطين في هذه العملية التاريخية هي التمسك بكيانية الدولة التي تنتظم حركتهم في إطارها، وتحت قيادتها، وهي تقوم بمهمتين متلازمتين في وقت واحد : ١- معركة استعادة الدولة،٢-الانتظام في إطار المشروع السياسي الذي تستند عليه في حشد المجتمع، بما في ذلك حل المشاكل الاقتصادية والخدمية للناس . وفي هذا السياق تكون عملية الاصلاح منظومة متكاملة لجهاز الدولة غير قابلة للتجزئة، كما أنها يجب ألاّ تكون عملية انتقائية توظف لأغراض تشتق من مقاربات ملتبسة، أو بدافع المناكفة السياسية، أو الدعاية الشعبوية حيث تنفصل المصلحة العامة عن المصلحة الخاصة في المساحة التي يواصل فيها خطابها مساجلاته بلا محتوى سوى ما يبثه من غرائز الإشهار من ناحية والتشهير والانتقام من ناحية أخرى .
وكثيرًا ما انتهت العمليات من هذا النوع إلى الاضرار بالمجتمع وبالدولة والمشروع الذي تقوده .
وفي نقلة أخرى من المشهد تبدو مطالبات الحكم الذاتي في أكثر من رقعة جغرافية، من الجغرافيا التي تحت نفوذ الشرعية، عملية سياسية واجتماعية مشحونة بخيارات صعبة، وربما كانت، في أحسن الأحوال، معبرة عن الضجر مما أصاب أصحابها من إحباط بسبب ما آل إليه المشهد السياسي من تشقق، وهي وإن عبرت عن رغبة في التحرر من هذا الاحباط، لكنها في حقيقتها يجب ألاّ تكون هروبًا من مواجهة تحديات هذا الاحباط وأسبابه الحقيقية . وعندما يكون البحث عن الحل مقترنًا بما يبدو متاحًا تسويقه للناس في مثل هذه الظروف فلا شك أننا سنكون أمام محصلة صفرية، أي لا دولة ولا حكم ذاتي، “لا ذا تأتى ولا ذا حصل” .
ولا بأس من النظر إلى المسألة من الزاوية الأخرى التي تصبح فيها مثل هذه الظواهر منبهًا للخلل العميق الذي يضرب بقوة جذر مشروع استعادة الدولة، ويشكل حافزًا لاصلاح منظومته .
إصلاح الدولة، لا تكسيرها، هو المسار الصحيح . ليكن الاصلاح قاسيًا أمام ما يحيط بها من مهمة لا تقبل الخسارة .
وحتى لا يبدو المشهد وكأنه خلاصة مرحلة من الاخفاق، كما يريدها البعض أن تكون، فلا بد هنا من التأكيد على أننا أمام معركة داخلية أشد خطورة من العدو ذاته، وأن على الفؤوس التي ترفع في هذه المعركة الداخلية في وجه هذه الدولة، بكل ما تعانيه من أوضاع صعبة ومعقدة واخفاقات، أن تتجه الى المكان الصحيح، وستتغير معادلة الحل . فهذا هو الخيار الوحيد إذا أردنا أن ينتهي المشوار نهاية حميدة .