إن ما أعجبني في الفنان اختر في الإعداد يذكرني ببعض أعمال الكاتب الأمريكي الشهير نيل سيمون وإعداده لقصص انطوان تشيخوف الروسي.أما المسرحية الثانية التي أعدها الكاتب و المخرج المسرحي عبدالعزيز عباس وأخرجها أختر عبدالملك فكانت بعنوان (ابتسامات ولكن) للكاتب الألماني الشاب انجو شولتسيه من كتاب (قصص بسيطة) حيث ظهر لنا المخرج هذه المرة متميزاً وكأنه في مسابقة مع الذات وقدم لنا رؤية إخراجية تقترب من التجريب في الإخراج وأسلوباً يتميز به بعض مسارح الشباب في أوروبا والابتعاد دائماً عن التقليد وبقالب ثنائي أو (الدويتو المسرحي) حيث كتب عنها الكاتب الصحفي عبدالرحمن أحمد عبده في صحيفة الجمهورية موضوعاً بعنوان (مسرحية يمنية بقلم ألماني) وأشار فيها إلى الكاتب انجولتسية حين يعرفه للقراء قائلاً: (يعد الكاتب من شباب المانيا الشرقية السابقة ويتحدث بأعماله عن المشكلات الاجتماعية والتحولات السياسية التي عمت المانيا بعد توحيدها) كما يشير الكاتب إلى موضوع آخر في غاية الأهمية حين قال: (حقق كتابه أو روايته القصصية ( قصص بسيطة) نجاحاً شعبياً لافتاً في المانيا وتجاوز نجاحه الحدود ليحقق شهرة عالمية بفضل القصص التي تناولت الفترة التي أعقبت انهيار جدار برلين 1989م واثر ذلك على حياة الناس في الجزء الشرقي من المانيا).ويضيف قائلاً: اعتبر كثير من النقاد أن روايته (قصص بسيطة) عن مقاطعات الشرقية الألمانية بمثابة الرواية التي طال انتظارها عن الوحدة).. إن ما أثاره الكاتب عبدالرحمن ذو شجون بحيث ساعد في اكتشاف سر اختيار المخرج اختر عبدالملك والمعد عبدالعزيز عباس تحديداً لهذا العمل كونه الأقرب إلى التشابه الزمني في الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية ومنطقتها على الطريقة اليمنية التي بمثابة التوأمة بين المقاطعات الشرقية والمناطق الجنوبية في اليمن كون المسرحية جاءت وفق شولتسيه الذي انتقد بشدة الطغيان الاقتصادي وتعكس مجريات حياة الناس العادية حيث كانت حياتهم عادية وبسيطة وأصبحوا يواجهون تحولات جذرية صادمة وما نتج عن هذه التحولات من مشاكل اجتماعية واقتصادية كما هناك في الشطر الجنوبي وما هو أيضاً في الشطر اليمني حينما تغلبت الجوانب الاقتصادية على كل مجالات الحياة وفي نهاية المقال يقول عبدالرحمن: (كمتابع متلق ومتذوق للعمل الفني اعتقد أن بإمكان المخرج أن يستفيد أكثر من شخصية العازف وموسيقاه ليدخلها بقوة إلى دراما الحكاية والتفاعل مع حوار وحركة أبطال الحكاية) .. لكن ما نريد أن نوضحه عن رأي عبدالرحمن أن العكس هو الصحيح بمعنى آخر أن أسلوب المخرج اختر كان الأقوى في مساعدة البناء الدرامي والرؤية الإخراجية بل ان هذا الأسلوب هو ما جعل المسرحية تكون أقرب إلى مسرح تجريب وهذا أسلوب جديد في المسرح وكان لنا شخصياً هذه التجربة عام 1995م في معهد الفنون الجميلة لمشروع تخرج طلبة حينما أشرفت على الدفعة وأخرجت حينها مسرحية الكاتب الأمريكي نيل سيمون عندما أدخلت إلى العمل الدرامي عازف الكمان.أما بخصوص المسرحية الثالثة التي نود أن نتناولها مطولاً نظراً لكونها جاءت أكثر نضجاً فيمكن القول إن ما قدمه اختر عبدالملك في هذا العمل الفني تتويج حقيقي وإثبات للذات وإقناع للمشاهد وللمهتم بشؤون وخبايا وأسرار المسرح، حيث أعاد لنا المخرج بصيصاً من الأمل للمسرح الملتزم الذي يحمل رسالة وفكراً ورؤية إخراجية تعالج قضايا إنسانية ترتقي أدبياً وفنياً بذوق المشاهد، فقد افتقدنا كثيراً مثل هكذا مسرحيات، والفضل يعود أولاً للمخرج نفسه وثانياً للمادة الأدبية المتميزة فدائماً ما يصر المخرج على أن يتعامل مع الأدب الألماني ليحقق لنفسه السبق والانجاز الشخصي في التعامل مع القصة الألمانية تحديداً وبروح يمنية إنما في هذه المرة يخرج علينا بمعالجة ورؤية إخراجية تتوافق مع رؤية الكاتبة الألمانية صاحبة القصة انجي بور باخمان والتي كانت بعنوان ( كل شيء) والتي أتقنت الخوض العميق في خبايا النفس البشرية من خلال اكتشاف الإنسان لنفسه ومحاسبتها ومعاقبتها في بعض الأحيان، كل ذلك عبر عدة عوامل، اجتماعية كانت أم اقتصادية أم سيكولوجية وما شاهدناه في العمل المسرحي الذي كتبه وأعده الفنان اختر عبدالملك والذي حمل اسماً آخر هو ( مبروك جالك ولد ) عرف المخرج كيفية بلورة أفكار القصة والحفاظ على الرؤية الأساسية فيها عن طريق الصراع مع الذات درامياً وتحريكها وتحويلها إلى أفعال حية وردود أفعال لشخوص خلقها وتبناها المخرج بطريقة إخراجية موفقة، كما يجب الإشارة إلى إن روح القصة تخاطب قضايا العصر الاجتماعية والاقتصادية وحتى الثقافية والسياسية ناهيك عن المشاكل النفسية، حيث نجد ما جاء فيها محاكاة لعموم البشرية لتبنيها أفكاراً نعايشها جميعاً، ومن هذا المنطلق استطاع المخرج وبذكاء شديد أن يعالجها درامياً وإتقانه تعريبها ويمننتها إلى نص مسرحي ارتقى إلى مستوى النص الدرامي المكتمل مسرحياً.. فيه عناصر الوحدات المطلوبة مع تغيب وحدة المكان بذكاء شديد حتى تتكامل رؤيته برؤية القصة وأبعادها رغم استخدامه للهجة اليمنية في بعض الأحيان وهذا ما نستطيع قوله.. إنه البعد السياسي بامتياز. [c1]كيف جاءت المسرحية : [/c]المسرحية عالجت التحولات الجذرية لعصرنا وأبرزت مساوئ هذا العصر من وجهة نظر الإنسان البسيط الباحث عن أحقية التكافل في العلاقات الاقتصادية والاجتماعية، وجهة نظر تجبرنا على أن نحترمها، من خلال ما يدور من صراع لتلك الأفكار التي يعاني منها كل إنسان عاقل تقريباً نجده أمام محاكمة للذات بحيث سيطرت عليها التهمة الرئيسية ( المثالية ) التي يحلم بها الإنسان السوي، إلا أن العالم لا يمكن أن يكون مثالياً كما أراده دون كيشوت سابقاً ويريده بطل مسرحيتنا حالياً، فالعالم منذ الأزل فيه الخير والشر وفيه الحق والباطل وفيه الظلم والعدل! لقد نجح المخرج بمسرحيته في أن يصل إلى مبتغاه لفهمه الدقيق لفلسفة القصة نفسها وجاء على لسان بطلها وهو يقول: ( وأدركت فجأة أن الأمر كله هو مسألة اللغة التي خلقت مع غيرها في بابل إذ تكمن تحتها لغة أخرى تشتمل حتى الإشارات والنظرات واستخلاص الأفكار وسير الشعور وفيها كل شقائنا ). إن ما وصل إليه بطل المسرحية وهو يبحث عن مستقبل مولوده القادم في كيفية تربيته على قيم وأخلاق ومثل افتقدناها أو لم نعد نشعر بأهميتها نظراً للافتقار إلى لغة الإنسانية .. لغة الضمير الحي.. لغة العقل، وضياع لغة أخرى من المفاهيم هي لغة الإحساس والمشاعر نظراً للتقدم الالكتروني الذي اجتاح هذا العالم وصار فيه حتى الحب مجرد كلمات تمر عبر الفيس بوك ومواقع التواصل الاجتماعي، دون مشاعر وأحاسيس. أما البناء الدرامي فكان فيه موفقاً وإن كان لنا بعض الملاحظات النقدية البسيطة حول شخصيات النسوة التي شكلت ضعفاً ما على تصاعد البناء الدرامي، ونأمل إعادة النظر في صياغتها وتشذيبها وتوظيف حواراتها وطريقة أدائها حتى تصل إلى مستوى بقية المشاهد التي كانت ذات مستوى أكاديمي رفيع في الشكل والمضمون، حيث تعامل المخرج مع نص هو في الأصل من صنعه بحبكة درامية لسلسلة متصاعدة لأحداث فيها عناصر المفاجأة والتشويق والنقلات النوعية الممنهجة تماشياً مع النص عبر استخدام الموسيقى لإكمال الفكرة أو الديكور كعامل مساعد لأداء الممثلين الذين جسدوا أدوارهم بكل لباقة وببراعة متفاوتة من خلال تحركهم في تلك المساحات المحصورة وتضييق الخناق على الرجل ( بطل الرواية ) ومحاصرته، أي محاصرة للأفكار المرنة أو المعتدلة على الأفكار المثالية الأحادية لنقل الأكثر تصلباً. إن ما أراده المخرج هو إيصال فكرة المسرحية عن مدى سيطرة هذه الأفكار على ذهنية ( الرجل ) أو (الأب) وهو يبحث عن عالم لم يعد موجوداً على الأقل في زمنه وزمن زوجته.. عالم يراه مثالياً كما يعتقد ولم يتكرر في عالمنا اليوم في زمن العولمة من الاقتصاد مروراً بالسياسية حتى التربية المنزلية. صحيح أن النهاية كانت غير سعيدة نظراً لانتصار الأفكار النقيضة والمعاكسة لأفكاره بموت ذاك المولود الذي طالما انتظره، إلا أنها كانت الأكثر واقعية من وجهة نظرنا على الأقل، لأنه إذا ظل الإنسان يفكر ليبني واقعاً آخر يبتغيه أو يحلم به دون أن يخوض التجربة ويعيشها على الواقع ستبقى مجرد أفكار محبوسة في عالمه الخاص الذي يتمناه، لذلك أظن أن الكاتبة الرائعة إنجي باخمان أرادت أن تناقش نفسها في هذه القصة ولكن بصوت مسموع لكي نسمعها ونناقشها سواء وافقناها أم لا، إنما يجب احترام تفكيرها.وما يثير الأمر في رأي الكاتبة عند وفاة الابن يأتي كدليل على ضرورة موت تلك الأفكار العبثية التي تراود الإنسان وتدينها ! من حيث تقديم دعوة مفتوحة لكل من راودته أفكار مشابهة أن عليه التخلي عنها، لأن الحياة مستمرة في كل زمان ومكان ويجب التعايش فيها ومعها فقط بالإرادة الإنسانية من اجل الخروج بحلول وشروط جديدة لعصر جديد وزمن جديد وعالم جديد ولا بأس أن نستفيد من ماض أفضل كنا قد عشناه. الإخراج: كان المخرج مميزاً ولكن ما شدني هو ما لاحظته من لمسات إخراجية وتقنية مشابهة إلى حد ما لما نشاهده في المسرح الصيني والياباني في طريقة تعامله مع اللون وأهمية دور الألوان في الديكور والأزياء التي لها دلالات عميقة وتفضلها المسارح الآسيوية الشرقية وحتى الهندية.. فكان استخدامها في كل حدث موفقاً إضافة إلى الميزانسين وطريقة أداء الممثلين في بعض المشاهد هي أقرب إلى الحركات المقصودة في الأداء الروحي للشرق الأصفر.. وكنت أتمنى لو اهتم المخرج إلى حد إما بحركة جسد الممثلين المكملين لبطل العمل وكثف من لغة الجسد ( البلاستيكا ) لكانت اكتملت الصورة لما لمسناه من المسرح الصيني وقريباً إليه.
|
ثقافة
الفن والأدب الألماني في حراك المسرح الوطني
أخبار متعلقة