تابعت باهتمام ما نشرته الصحف خلال الاسبوعين الماضيين تعليقا علي الحوار الذي دار بيني وبين فضيلة الدكتور علي جمعة مفتي مصر في برنامج البيت بيتك، وقد دلني ما قرأته وما سمعته على أن حواري مع فضيلة المفتي حظي بمشاهدة واسعة . وهذا في حد ذاته انجاز من عدة وجوه . فقد ثبت ان الجمهور العريض ليس دائما جمهورا تافها . وان حديثا حول الارهاب وأسبابه ودور علماء الدين في التصدي له قادر على ان يجتذب ملايين المشاهدين وأن المصريين متدينون بطبيعتهم، لكنهم ليسوا متطرفين . وانهم يحترمون علماء الدين بلاشك، لكنهم يرفضون ان يتحول هؤلاء السادة الأجلاء الي سلطة دينية تنفرد بالقول، وتطارد الكتاب والفنانين، وتضيق عليهم الخناق، وتحلل وحدها وتحرم . لهذا رحب الجمهور بحواري مع فضيلة المفتي، هذا الحوار الذي اقترحه فضيلته علي مقدمي البرنامج بعد ان استمع لما قلته في حلقة سابقة عن الارهاب، وعن الدور الذي يجب ان يؤديه علماء الدين في التصدي له، وعن الفتوي التي حرم فيها فضيلته اقتناء التماثيل وانتقدتها انا بشدة ورأيت فيها عنفا وتشددا لم نكن ننتظرهما من فضيلته . وقد اتصل بي مقدمو البرنامج مشكورين، وعرضوا علي اقتراح المفتي فرحبت به ووجدت فيه من اللباقة وسعة الصدر والرغبة في التفاهم ما يفرض علي ان استجيب، لاسيما وقد خصني فضيلة المفتي بهذه المبادرة، واختار ان يحاورني انا بالذات، أو يحاور المثقفين من خلالي . وهو حسن ظن رددت عليه بمايليق، فلم أجعل همي في هذا اللقاء المشهود أن أسابق المفتي أو أناظره، وانما فضلت ان أحاوره وان أجعل الحوار معه تقليدا متبعا وسابقة نؤكد فيها احترامنا لعلماء الدين باعتبارهم أصحاب اختصاص يعرفون من أمور الدين ما لا نعرف، فبوسعهم ان يجيبونا عن أسئلتنا، وان يجتهدوا لنا ويفتونا دون ان يفرضوا علينا أن نعمل بما يقولون، لأنهم ليسوا سلطة دينية، وليسوا وكلاء ولا وسطاء بيننا وبين الله، ولأنهم يتعرضون أحيانا لمسائل تتصل بعلوم وفنون اخرى لا يحسنونها كالسياسة، والاقتصاد، والطب، والفنون والاداب، فبوسعنا ان نناقش علماء الدين فيما يقولون، خاصة في أمور الدنيا التي نعرف فيها قدر ما يعرفون وربما أكثر، والدين يهدي للخير ويأمر بما ينفع وينهي عما يضر، ونحن نستطيع التمييز بين الخير والشر وبين الضرر والمنفعة . واذا كان علماء الدين يملكون النص فنحن نملك العقل . وإذا كانوا يرجعون للسلف الصالح فنحن نرجع لروح العصر، ونستجيب لمطالب الحياة، وهكذا دار الحوار بيني وبين فضيلة المفتي، استمع لي، واستمعت له . لم أنكر عليه حقه في أن يري مايراه، ويعلن مايطمئن إليه . ولم أقصر في التعبير عن احترامي له وتوقيري لمنصبه . ولم ينكر علي حقي في ان أناقشه، وان أعارضه، وأن أختلف معه، وهذا ما توقف عنده المعلقون وأشادوا به، إلا قليلا منهم اعتبروه معركة قالوا إن المفتي كسبها . وزاد احدهم فقال ان المفتي انتصر علي بالضربة القاضية ! ولست أريد ان أقف عند كلام من هذا النوع، وإنما أريد ان أنفي عن الحوارـ الذي أرجو أن يتواصل ـ هذا الطابع الاستفزازي، الذي حاول البعض أن يلصقه به، وأضعه من جديد داخل حدوده الموضوعية الرصينة.لقد اثرت مع فضيلة المفتي مجموعة من المسائل بدأتها بهذا المناخ السائد الذي يجد فيه الناس أنفسهم منفيين عن واقعهم، مغتربين عن ذواتهم، مسخرين لتحقيق مالايفهمونه ومالاينتفعون به، مرغمين علي مواصلة العيش في أصعب الشروط المادية والمعنوية، يسألون ولايجدون الجواب، ويعانون ولايرون حلا أو مخرجا . مناخ ثقيل يضعط على الصدور، ويكتم الأنفاس، ويثير القلق على الحاضر والخوف من المستقبل، ويجعلنا متشككين مترددين نحتكم لغرائزنا، ونستعد للدفاع عن أنفسنا في مواجهة ما تأتي به المصادفة وما يسفر عنه المجهول . وما أسرع ما تنمو الأكاذيب، وتفرخ الشائعات، وتنتهك حرمة القانون، وتعلو المصلحة الشخصية على المصلحة العامة، ويتراجع الشعور بالانتماء، وينفرط عقد الأمة، وتظهر التحزبات الضيقة، والنعرات الطائفية، ويدخل كل واحد شرنقته، ويتحصن بجلده، ويسيء الظن بكل من يختلف معه أويختلف عنه، وفي هذا المناخ الوبيل تسقط راية الوطن، وتروج المتاجرة بالدين، ويرفع بعضهم الصلبان في مواجهة من يرفعون المصاحف . إن السيوف التي يقطع بها الارهابيون الملثمون رؤوس الرهائن في التسجيلات التي تخصصت في إذاعتها بعض القنوات الفضائية، هي السيوف التي نراها مرسومة على زجاج السيارات عندنا، وهي السيوف التي استخدمها المجرم الدنيء الذي هاجم المصلين في بعض كنائس الإسكندرية ! ولست أظن أن فضيلة المفتي عارضني في شيء من هذا الذي قلته عن هذا المناخ السائد، وإنما اختلفنا في تقييم الدور الذي يؤديه علماء الدين في التصدي للإرهاب . في اعتقادي أن هناك تقصيرا في أداء هذا الدور لابد من الإشارة إليه، لأن الارهابيين يزعمون أنهم يجاهدون في سبيل الله، وانهم يرفعون راية الإسلام ويعملون بما يأمرهم به، وهم يخدعون الشباب المتعطش للأعمال البطولية بما يقولون وبما يفعلون، فعلينا ان نفضح حقيقة هذا العنف الوحشي وأن نبرئ الإسلام من أن يكون محرضا عليه أو راضيا عنه . الإرهابيون يأخذون الناس بالسيف، والسيف لايصنع إلا منافقين، أما الدين فيسكن قلوب المؤمنين . والارهاب إذن والإسلام لايجتمعان . غير أن الارهابيين مازالوا يتحدثون باسم الإسلام، ومازالوا يزعمون أنهم أبناؤه وأنصاره، ومازالوا يخدعون الشباب، ويرتكبون جرائمهم في أنحاء العالم، فمن يكون المقصر؟ ومن أين يأتي التقصير؟يقول فضيلة المفتي : علماء الدين ليسوا مقصرين، فالأزهر موجود، ومعاهده التي تعد بالمئات منتشرة في أنحاء البلاد، والذين يتخرجون فيها يعدون بالملايين ويؤدون رسالتهم على أكمل وجه، لكنهم لايستطيعون أن يقضوا على الارهاب، لأن الارهاب لايعود للتطرف الديني وحده، بل يعود لأسباب أخرى لاعلاقة لها بالدين . وقد لوحظ ان الارهابيين لم ينجحوا في تجنيد الأزهريين . قلت له : فماذا تقول في الشيخ عمر عبد الرحمن؟قال : ثم من؟ولم أجب أنا، وإنما أجابت الصحف التي أعلنت ان أحد الارهابيين الذين شاركوا في جرائم دهب طالب في كلية أصول الدين، ثم إن الارهاب ليس مسدسات وقنابل فقط، ولكنه ثقافة أيضا، انه خطب وشعارات وفتاوى والذين يصادرون الكتب والأفلام والمسلسلات يشيعون التطرف ويمهدون الطريق أمام الذين يغتالون الكتاب ويهاجمون السياح ويفجرون الأسواق والفنادق . والذين يمارسون الإرهاب بألسنتهم لايقلون خطرا عن الذين يمارسونه بأيديهم . نقلا عن صحيفة / (( الاهرام )) المصرية
أنا وصاحب الفضيلة !
أخبار متعلقة