رضي السماك *كل أشكال العنف والإرهاب التي شهدتها الحروب الأهلية العربية المعاصرة وما شاكلها من صراعات سياسية دموية بدءاً من لبنان ومروراً بالسودان والصومال لم تعرف هذه الظاهرة المقززة الفريدة من الممارسة الإرهابية والانتحارية التي يشهدها العراق، ونعني بها على وجه التحديد التفجيرات الانتحارية في صفوف عشرات أو مئات الأبرياء في المساجد والأماكن المقدسة أو في أماكن احتشاداتهم بالأسواق أو بالمؤسسات والأماكن العامة.وفي كل تلك الحروب الأهلية العربية احتار العرب والعالم في فصول همجيتها المتوالية بين فرقائها واحتاروا مع استفحالها وقضائها على الأخضر واليابس عن إيجاد أي منطق للإصرار على استمرارها وعن أي نصر أو هدف يبتغيه أطرافها حصاده رماد الهشيم وأطلقوا على كل منها تعبير "الحرب المجنونة"، ومع ذلك فإن هذه الحروب وبضمنها التي شهدت أشد فصولها إرهاباً ووحشية كحرب التسعينات الجزائرية لم تبلغ ولم تضاه ما بلغته الساحة العراقية من بربرية ووحشية لا نظير لها طوال تاريخنا المعاصر على امتداد قرنين من الزمان منذ اختراع الأسلحة الحديثة ثم وصولها المنطقة العربية.وحتى ما قبل الاحتلال الأمريكي للعراق واندلاع أعمال العنف فيه كانت العمليات الانتحارية تكاد تقتصر على العمليات "الاستشهادية" التي تنفذها حركتا "حماس" و"الجهاد" ضد أهداف مدنية داخل أراضي 48 الفلسطينية وإلى حد ما بعض العمليات الانتحارية المحدودة في أفغانستان وما أعقبها من تفجيرات انتحارية خطيرة استهدفت برجي التجارة في نيويورك والبنتاجون في واشنطن.لكن وبالرغم مما تشهده الساحتان السياسيتان الفلسطينية والعربية من انقسام وجدل حول تقويم جدوى أو مشروعية تلك العمليات الفدائية التي تنفذها "حماس" و"الجهاد" إلا أنه يمكن تفهم دوافعها وأهدافها وأسبابها ما دامت تنفذ في ظل ظروف بالغة التعقيد يعاني منها شعب تحت الاحتلال ومحاصر بكل أشكال الحصار سدت عليه كل أبواب ووسائل المقاومة المشروعة في ظل تواطؤ دولي وعربي غير مسبوق.. وهذه العمليات الانتحارية- الاستشهادية يستطيع منفذوها أن يبرروها باعتبارها موجهة إلى صدور أعداء الدين والوطن اليهود مدنيين كانوا أم غير مدنيين، وهنا يمكنك بكل بساطة تفهم شكل التعبئة الروحية الدينية والوطنية التي يتم بها إعداد وتأهيل الاستشهادي الفلسطيني للقيام بعمليته الفدائية الانتحارية التي يعتبرها موجهة ضد أعدائه اليهود المحتلين.لكن كيف يمكن فهم وتفهم هذه العمليات الانتحارية الإرهابية التي يقوم بها أفراد ضد أبناء شعبهم الأبرياء المدنيين أثناء تأدية صلواتهم في مساجدهم وأماكنهم المقدسة سوى نتاج تأهيل تعبوي يقوم على تكفير كل هؤلاء المدنيين من شباب وشيوخ ونساء وأطفال ومساواتهم تماماً باليهود والأمريكيين، هذا إذا ما سلمنا بجواز ومشروعية قتل المدنيين منهم بالوسيلة الانتحارية؟والمشكلة ليست فقط في خطورة خطاب التعبئة "الاستشهادية"- الانتحارية ضد هؤلاء الأبرياء، الذي يرسم معالم الطريق إلى الجنة على أشلاء هؤلاء الأبرياء وجماجمهم بل في انفرادهم في تشويه سمعة الفئة التي ينتمون إليها والتي قدم شبابها من مختلف المشارب والانتماءات السياسية على امتداد العالم العربي تضحيات وطنية هائلة في مكافحة الاحتلالات الأجنبية، في حين يربأ مجانين وغلاة ومتطرفو الجماعات والفئات الدينية الأخرى بأنفسهم عن الرد بانتهاج الأسلوب الانتحاري "الاستشهادي" نفسه كوسيلة مختصرة وطريق سريع للوصول إلى الجنة.إن كل الأعمال الإرهابية والمتطرفة والممارسات والكتابات الطائفية ما لم تدن بقوة وبلغة واضحة حازمة أولاً من قبل عقلاء الفئات التي يرتكب الإرهابيون باسمها تلك الجرائم والممارسات، ويتبرأون منهم فإنه لن يوضع حد لها ما لم تكن عملياً تشجيعاً ضمنياً على مواصلتها.ومن الوهم الاعتقاد بأن الوسيلة الأمنية كافية أو ناجعة للتصدي للأعمال الانتحارية الإرهابية بحق الأبرياء ما لم تقرن في المقام الأول بالتصدي الفاعل والحازم لفضح وتفكيك خطاب التعبئة والتأهيل التكفيري الذي يصطاد السذج والمجانين والمحبطين، حيث يسهل إغواؤهم ووقوعهم في حبائله في بيئة العراق الراهنة طلباً للجنَّة وحور العين.* نقلا عن صحيفة "الخليج" الإماراتية
تفكيك خطاب التكفير
أخبار متعلقة