وأخيراً وصلت المرأة الخليجية إلى منصب القضاء، فقد أصدر ملك البحرين الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة، أمراً ملكياً بتعيين سيدة بحرينية، قاضية في المحكمة المدنية الكبرى، لتصبح السيدة/ منى جاسم الكواري أول قاضية في تاريخ الخليج كله. لقد كان منصب القضاء، حكراً على الرجال وحدهم في منطقة الخليج، وتحصن هذا الاحتكار بالفتاوى الدينية على امتداد ألف عام، والتي جعلت من "القضاء" ولاية عامة محرمة على المرأة تحريماً قاطعاً، لدرجة اتهام من جوز "قضاء المرأة" بمخالفة الثوابت الشرعية. ها هي المرأة الخليجية تقتحم آخر حصن للرجال كما اقتحمت بالأمس القريب المناصب الوزارية ومختلف الوظائف القيادية التي كانت حكراً على الرجال، ونزلت ساحة المشاركة السياسية لاعبة تجيد فنون اللعبة الانتخابية. لقد ظل إسلاميو الكويت "نصف قرن" يجاهدون ضد حقوق المرأة السياسية ولم تبق نقيصة إلا وألصقوها بالمرأة ولم يتورعوا عن استخدام ألفاظ نابية ضدها بل واتهموا ـ وبدون أي وازع أخلاقي ـ أنصار المرأة بأنهم عملاء الغرب ودعاة التغريب والتفسخ الأخلاقي. ولكن هاهم الآن، انقلبوا جميعاً وتغيرت مواقفهم تماماً فأصبحوا يتوددون إليها ويثمنون دورها السياسي ويتصورون معها طمعاً في صوتها الانتخابي!! بل ويتنصلون من مواقفهم السابقة أو يبررونها بتبريرات عجيبة!! إذا كنتم بالأمس ترون مشاركة المرأة السياسية "حراماً" و"معصية" فما الذي يجبركم اليوم على قبول الإثم والمعصية؟! لماذا لا تتورعون عن صوت المرأة الحرام وتكتفون بصوت الرجل الحلال؟! ترى ما الذي جرى في المجتمع الخليجي؟ وما هي طبيعة التحولات الاجتماعية فيه؟ من كان يتصور قبل عقد من السنين أن تصبح الخليجية وزيرة وقاضية وناخبة ومنتخبة؟ لقد ظلّت المرأة في الخطاب الديني الخليجي ومازالت في وضعية أدنى، ومازالت التشريعات الخليجية سواء في المجال المدني أو الجنائي أو التجاري أو قوانين الأحوال الشخصية أو قوانين الجنسية ذات صبغة ذكورية غالبة، وهي أسيرة لذهنية تمييزية ومرجعية ذكورية متسلّطة ـ وهي التي تحكم المجتمع الخليجي والعربي عامة، فما الذي جعل المجتمع العربي والخليجي خاصة ـ متقبلاً ـ لوضعية المرأة الجديدة في غزوها لمجالات كانت مقصورة على الرجل؟! إنها جهود المصلحين من الرجال عبر قرن من الزمان هؤلاء الذين آلمهم وضعية المرأة المتخلفة في المجتمع العربي وطالبوا في تحد للسائد والعام بإنصاف المرأة ثم ساندوا جهاد المرأة من أجل نيل حقوقها الإنسانية. يجب علينا أن نتذكر بكل تقدير وامتنان جهود المصلح العظيم الإمام محمد عبده، رائد الإصلاح الحديث ثم جهود المصلحين من بعده وبخاصة (قاسم أمين) والتي تمثلت في كتابه الرائد والمبدع "تحرير المرأة". وقد صدر عام 1899 وأحدث ضجة كبرى في المجتمع المصري والمجتمعات الشرقية، هذا الكتاب الذي كان يهدف إلى "تحرير" المرأة من قيود الجهالة والتخلف والعادات الظالمة، أو حسب تعبير الكاتب الصحافي فكري كرسون (انه الرجل الذي كان يهدف إلى تحرير المرأة من وثنيات لم يأت بها دين) ـ الراية القطرية 24/5/2006. تلك الجهود وذلك الجهاد، أثمرا في النهاية ثماراً ايجابية تمثلت في هذه المكتسبات التي تنعم بها المرأة العربية عامة والخليجية خاصة. بطبيعة الحال نحن ندرك أن المجتمعات الخليجية ليست على حد سواء في تلك الانجازات الاجتماعية، إذ مازالت المرأة الخليجية في بعض دول الخليج محرومة من أبسط حقوقها الإنسانية، لا تتمكن من مراجعة قضاياها في المحاكم، ومازالت المرأة الخليجية محرومة من نقل جنسيتها الى زوجها وأولادها إذا تزوجت من غير المواطن. وذلك في كل دول الخليج، ومازالت قوانين الأحوال الشخصية تظلم الأسرة الخليجية بتشريعاتها التمييزية ضد المرأة في مجالات عديدة كالزواج والتعدد والطلاق والخلع والحضانة والنفقة والمتعة ومازال العنف الأسري سائداً في المجتمع الخليجي. ولكن مع كل تلك الثغرات وأوجه النقص والقصور فإن ما تحقق ـ خليجياً ـ من تمكين للمرأة في ميادين التنمية والإنتاج والتعليم والخدمات الاجتماعية ومن المشاركة في صنع القرار لهو أمر ايجابي يدعو للاعتزاز، ولم يكن كل ذلك ليتحقق لولا المؤازرة الصادقة لكفاح المرأة من قبل مثقفين مصلحين تحدوا الأعراف والتقاليد والثقافة السائدة. كما يجب علينا تثمين دور القرار السياسي على مستوى القادة الخليجيين في تمكين المرأة، فلولاه لظلت الجهود بغير ثمرة. ولا ننسى ـ أيضاً ـ أن كل ذلك لم يكن ليتحقق وبهذه الخطوات السريعة لولا المناخ الدولي العام المشجع والضاغط من أجل تمكين المرأة من حقوقها. تحيتي لمملكة البحرين على هذا السبق التاريخي وتهنئتي للقاضية القديرة وتمنياتي أن تحذو بقية دول الخليج حذو (البحرين) في تعيين قاضيات مواطنات في محاكمها. * عن صحيفة "البيان" الاماراتية
أول قاضية خليجية
أخبار متعلقة