[c1]د.عمرو عبدالسميع[/c]التهدج والتبتل ، ورعش الصوت ، والتظاهر بخفوته ووهنه ذوبانا في حالة ورعة إيمانية ، ورفع بؤبؤ العين إلى ما تحت قبة الجفن تعلقا واستنجادا بالسماء ، وذرف الدمع مدرارا تأثرا وخشية ، وتشبيك أصابع اليدين في خشوع وضراعة ، وارتداء ملابس ذات سمت إيحائي وإيماني ، أبيض في أبيض ، أو ذات حضور تاريخي ملون يشبه ما كان الناس يرتدونه في أسواق سمرقند أو حكايات ألف ليلة وليلة ، أو أديرة الصحراء ، والتظاهر بالزهد وباقي المنظومة المعقدة والمفتعلة في الكثير من جوانبها .. لكل هاتيك المظاهر السلوكية والحركية التي أصبحت السمت السائد في أداء بعض المذيعين ومقدمي البرامج ، بل والممثلين والمشخصاتية ، وأخيرا المطربين على القنوات الدينية الفضائية ( الإسلامية والمسيحية)، لا تهز فـي شعرة واحدة تجاوبا أو تصديقا ، على الرغم من أني ـ ولله الحمد والمنة ـ رجل متدين أجتهد في أن أرعي ديني وأرعى الله في كل ما أفعل أو أكتب ، ولست محتاجا إلى شهادات من أحد في هذا المقام ، كما لا أتصور أن أحدكم يحتاج إلى مثل تلك الشهادات . وسبب إعراضي عن ، وعدم اقتناعي بما يترى على شاشات تلك الفضائيات ، إنما يكمن في عدد من الحقائق لابد أن تكون حاضرة ماثلة في دماغ أي متأمل لتلك الظاهرة ، وأوجزها في النقاط التالية : 1 - تصعيد الخطاب الديني ـ بصفة عامة ـ يؤدي تلقائيا ، وفي المنطقة التي نعيش فيها ، إلي استقطاب ديني ( إسلامي / مسيحي )، وهو يجد في ساحة الإعلام الفضائي مجالا جديدا يتجلي فيه ويستولد أشكالا جديدة للتضاغط والاحتكاك ، ولا أظن أن عالمنا العربي ـ في اللحظة الراهنة يتحملها ، فضلا عن أنها ـ بالضرورة ـ تفتح الباب على مصراعيه أمام دخول عناصر ( لها طموحات دور القوة العظمي الإقليمية ، أو دولية لها استهداف الهيمنة والسيطرة عبر إذكاء الحزازات متنوعة الدرجة والمستوى ) على الخط لتقوم بتحميل الأثير عددا من رسائلها ـ ذات الغرض السياسي في نهاية المطاف ـ والتي يمكن اختزالها في التحريض والإضعاف ، واستدعاء فرص التحرش المتبادل بين الملل والنحل والأعراق . 2 - إلى ذلك ، فإن احتكاكات أخري يمكن أن تجد في ساحة تلك الفضائيات المجال الأكثر ملاءمة لظهورها وتكريس حالة من التشرذم المذهبي ، وهي التي يمكن أن تتمثل في قنوات ( الرسالة ) و ( المجد ) و ( الأنوار ) و ( الناس ) على الجانب السني ، ثم ( المنار ) التابعة لحزب الله وبعض القنوات العراقية المحدثة علي الجانب الشيعي ، أو ـ علي الضفة الأخري للنهر ـ قناة ( أغابي ) أو المحبة التي تسمت باسم قديسة مسيحية ، وبثت علي الإنترنت وتراها الكنيسة المصرية أول قناة أرثوذكسية ، ولم يفسحها القانون للبث علي قمر النيل سات ، لأنه يحظر القنوات ذات الطابع الديني ( وحسنا فعل وإن كنت سأناقش في موضع آخر من تلك السطور تصعيد الخطاب الديني على مستوى البرامج وليس القنوات الفضائية فحسب )، وإلى جوار تلك القناة الأرثوذكسية هناك ـ على سبيل المثال ـ قناة (عشتار) الموجهة ـ أساسا ـ للكلدانيين والسوريانيين في العراق ، ثم 33 قناة أخرى مثل ( سات ـ 7) و ( الحياة )، و ( نور ـ سات )، و ( تلي لوميار ) و ( معجزة )، والتي تبث عبر القمر الأوروبي هوت بيرد أو القمر الأمريكي تلستار ـ 12، وتمثل ألوان الطيف من فكر وارتباط الطوائف المسيحية ، ويتنوع خطابها ما بين درجات مختلفة من الحدة إزاء الموضوعات العامة أو ذات الصبغة الدينية ، وبالذات في نظرتها للآخر من الدين نفسه ، أو من دين آخر . على أي حال ، فإن تخصيص أو قصر الرسائل الإعلامية التي يتم تحميل الأثير بها علي دين بعينه ، هو لون من ألوان التمييز الديني ، ودفع إلى سلسلة جهنمية لا نهائية من التصعيد المتبادل ، واختراع أنساق للخصوصية والعمل على تأكيدها باستمرار ، بما يؤدي ـ مجددا ـ للاستقطاب ، ويفضي إلى حال الاحتراب المذهبي كعنوان فرعي يلي العنوان الرئيسي ، وهو الفتنة الطائفية ، وهما ـ كما هو واضح من تتبع مجريات الأمور والأحداث السائرة / الدائرة في منطقتنا ـ بعض أهداف الخطة الأمريكية الرامية إلى اختراع شرق أوسط جديد علي كيفها ومزاجها وذوقها ، تمزقه الصراعات بجميع أشكالها ، وتهيمن إسرائيل وكيلتها التجارية على كل ما يجري فيه . 3 - طالما قبلنا فكرة وجود الخطاب الديني كأساس في حالة إعلامية بعينها ، فعلينا أن نقبل بتفاصيله وليس عمومياته ، لا بل إن ذلك الخطاب لن يحفل ـ كثيرا ـ بمسألة قبولنا له عل "هذا النحو أو ذاك، فهو سينتقل ـ مباشرة وبشكل تلقائي ـ إلى إغراقنا في تفاصيل فقهية أو كهنوتية ، كون ذلك هو التوالي الطبيعي طبقا لآليات الخطاب الديني وعملها في مستوياته المختلفة ، وهو الذي يرى ـ دوما ـ في التجائه إلي التفاصيل دفعا نحو مزيد من سيطرته علي الجمهور المستهدف ، أو حشدا لذلك الجمهور نفسه عند نقطة أكثر تطرفا ، يتيحها ـ بالطبيعة ـ الارتباط بالتفاصيل بأكثر مما يسمح الالتصاق بالعموميات . لقد أصبحت تلك القنوات ذات الطبيعة الدينية مراكز لبث التطرف على الهواء ، وإحياء أنساق فكرية مهجورة ليس لها علاقة بالدين وتثبيتها في أذهان الناس وبالذات الشباب ، واختراع بدع وسخافات وإلصاقها بالعقائد زورا واعتسافا ، ونشرها لتذيع وتشيع بين الناس ، وتؤسس لأوضاع أكثر تطرفا هي آخر ما نحتاجه اليوم في منطقتنا أو بلدنا . 4 - إن تمويل مثل تلك المحطات يفتح بابا لا ينغلق أمام تساؤلات ينبغي تحقيقها وتدقيقها ، خصوصاً أنها أصبحت ساحات تختلط فيها الأنساب السياسية والتجارية ( فضلا عن الطائفية والمذهبية ) على نحو كبير ، ولم يعد مفهوما : هل يقوم هذا الشخص أو تلك المؤسسة بإنشاء قناة لتقوم بهذا الدور من تلقاء نفسه / نفسها ، أم أنه واجهة لنشاط دولة أو مجموعة دول في أهداف ذات طبيعة أمنية وسياسية ، كما أن تنوع المحطات لدي مالك واحد ما بين محطة محجبة تترقرق على شاشتها دموع الإيمان ، ومحطة أغان تتهتك فيها النسوة عاريات البطون ، ومحطة أفلام تناقض هي الأخري ثقافة التبتل وفقه الارتجاف ، هو أمر يدفع إلى التساؤل حول مدى تجارية نشأة القنوات الدينية وعدم وجود أي بعد عقيدي أو رسالي لها ، كما أن اضطلاع مجموعات من المستثمرين مجهولي النسب المعرفي أو الهوية السياسية بإنشاء بعض تلك الفضائيات الدينية يدفع ـ هو الآخر ـ إلى التقليب في أوراقهم ، والحفر وراءهم والتثبت من كونهم يمثلون أنفسهم أو يمثلون دولا في أكثر أبعاد حركتها غموضا وخطورة ، وأخيرا .. فإن قيام دول أو ميليشيات بتمويل مثل تلك القنوات مباشرة ، يثير ـ كذلك ـ الرغبة في مناقشة أهداف تلك الدول من وراء ذلك التمويل ، إذ إن العمل الإعلامي أو النظام الفرعي الإعلامي في أي دولة يرتبط بغيره من الأنظمة الفرعية تأثيرا او تأثرا ، ويسبب قدرا هائلا من التداعيات والنتائج توجب دراسته في إطار تفاصيل كما أن تبيان الدول التى تمتلك ( بشكل مباشر أو غير مباشر ) تلك القنوات هو موضوع مهم يمس مصر علي وجه التحديد ، إذ إنها دول تختلف في مراحل نموها الاقتصادي والاجتماعي عنا ، وهي تحاول ردم الهوة الحضارية بيننا وبينها بالارتكان إلي السنادة التقليدية وهي الدين ( سواء من يتصورون زعامتهم للشيعة أو قيادتهم للسنة )، وهو ما تعتبر نفسها وكيلا له ، محاولة وراثة الدور المصري اعتمادا علي بند وحيد هو الدين ، بينما مصر ـ بالمناسبة ـ هى الدولة التي تتكامل فى تكوينها ومزاجها عناصر فكر ومزاج الشيعة على نحو فريد يمنحها ميزة استثنائية ( تنافسية إذا جاز التعبير )، إذ إن إحدي الدول المنشئة للقنوات الفضائية لا تستطيع ادعاء كونها قوة إقليمية عظمي بالاستناد إلى عنصر تمثيل مذهب إسلامي وحده !! 6 - لا نريد ـ فى ذلك السياق ـ أن نتجاوب مع السؤال السخيف ( من الذي بدأ؟ )، لأنه سؤال لا يؤدى إلى شىء ، ثم إنه ـ في ذاته ـ قد يؤدى إلى مزيد من التصعيد والاستقطاب ، وفيه تحريض على الاتهام المتبادل ، والإلقاء بتبعات أي سلبيات على عاتق طرف من دون طرف . لا .. يا أسيادنا .. الجميع متهمون في اعتقادي بالتجاوب مع نزعة من أحقر النزعات وأكثرها وهي التمييز على أساس الدين ، وهي أمر لا علاج له إلا بتبني النخبة لخطاب قومي ، يعطي تلك القضية بعض التركيز والاهتمام ، بدلا من استغراق عناصر تلك النخبة في الإفتاء السياسي بغير رخص علي القنوات الفضائية السياسية ، ومحاولة مغازلة بعض القوي الأجنبية والالتصاق بمشاريعها في المنطقة .. خطاب قومي لا يبحث عن جوانب الخلاف بين الطوائف أو المذاهب أو الأعراق ، ولكنه ـ في الوقت نفسه ـ يحترم الاختلاف في مستوي النمو الاقتصادي والاجتماعي بين دولة وأخرى ، وفي انعكاساته علي ساحة السياسة أو الثقافة أو الإعلام . 7 - تصعيد لهجة الخطاب الديني وصوته بما يترتب عليه من نتائج أشرنا إلي بعضها ـ وعلي رأسه تجهيز المنطقة عبر التشرذم الديني والطائفي والمذهبي لهيمنة إسرائيل ـ لا يتحقق فقط عبر امتلاك المحطات الفضائية ( المسيحية أو المسلمة ) والبث منها ، ولكنه يتحقق ـ كذلك ـ عن طريق نوع البرامج التي تبثها التليفزيونات الحكومية أو الخاصة ، والتي غالت كثيرا في الحديث عن ( رأي الدين ) في أي أمر وكل أمر ، كما غالى مذيعوها في النفاق والتزلف لرموز ونجوم التطرف الديني ، وأقطاب العمل السياسي من السلفيين أو المتشددين ، بل وفي تبرير الإرهاب ـ أحيانا ـ وهي ظاهرة أظن أنه قد حان وقت التوقف عندها ، حيث أصبح بعض هؤلاء المذيعين رءوس جسور لجماعات غير شرعية تسعى إلى الاختراق بهم وعبرهم في كل المؤسسات ذات التأثير . يبقى القول ان التطرف المبثوث علي الهواء صار كارثة يمكن أن تودي بمنطقتنا وبالمرتبطين بمشروع حضاري حقيقي فيها ، والموضوع كله ( حتى وإن كان منفذوه يفعلون بقصد أو من دون وعي ) هو جزء من مخطط يستهدف منطقتنا ، وهذا ليس تفكيرا تآمريا ، وإنما رصد ميداني لأمور تجري تحت سمعنا وبصرنا ، وعلى عينك يا تاجر !! * عن / ( الاهرام ) المصرية
تطرف على الهواء !
أخبار متعلقة