المؤلم في هذا المشهد ليس تأخر الراتب فحسب، بل التعامل معه وكأنه فضل تمنحه السلطة متى شاءت، وتؤخره متى أرادت، في تجاهل صارخ للتشريعات والقوانين النافذة التي تنص بوضوح على أن الراتب حق قانوني مكتسب مقابل العمل، وليس منحة ولا مساعدة طارئة.
القوانين الوظيفية والمالية في البلاد، وعلى رأسها قانون الخدمة المدنية وقانون الأجور والمرتبات (الباب الأول)، تُلزم الدولة بصرف راتب الموظف بانتظام وفي مواعيده المحددة، وتعتبره التزامًا ثابتًا لا يجوز تأجيله أو العبث به تحت أي ظرف إداري أو سياسي. كما يكفل الدستور حق المواطن في الأجر العادل مقابل العمل، ويحمّل الدولة مسؤولية توفيره بما يضمن كرامة الموظف واستقرار أسرته.
ومع ذلك، يُترك موظف الدولة اليوم بلا تفسير رسمي، ولا جدول زمني واضح، ولا جهة تُحاسَب عند الإخلال بهذا الالتزام. وفي المقابل، تتراكم عليه الديون، ويُحاصر بمطالبات الدائنين، ويُجبر على تقديم أعذار متكررة لأسرته قبل أن يقدمها للآخرين.
المفارقة المؤلمة أن من يديرون ملفات صرف المرتبات لا يشعرون بثقل هذه المعاناة؛ فهم محاطون بموازنات تشغيلية وامتيازات تجعل الراتب بالنسبة لهم تفصيلًا ثانويًا، بينما هو بالنسبة للموظف البسيط مصدر الحياة الوحيد. هذا الخلل الأخلاقي والإداري هو ما حوّل الراتب من وسيلة عيش إلى أداة ضغط، ومن حق قانوني إلى وسيلة إذلال جماعي.
وفي ظل الانهيار الاقتصادي بسبب تقلص الموارد، وارتفاع الأسعار، وجشع الأسواق والفساد الفاحش، لم يعد الراتب (حتى عند صرفه) قادرًا على تلبية أبسط الاحتياجات. ورغم ذلك، تغيب أي سياسات حماية حقيقية، وتُدار منظومة الرعاية الاجتماعية بطريقة عشوائية، تصل فيها الإعانات إلى غير مستحقيها في أغلب الأحيان، بينما يُترك الموظف الفقير خارج كل الحسابات.
إن ما يحدث اليوم ليس أزمة سيولة فحسب، بل أزمة احترام للقانون. فتعطيل صرف المرتبات يُعد مخالفة صريحة للتشريعات النافذة، وانتهاكًا لحق أساسي من حقوق الإنسان، ويقوّض الثقة بين المواطن والدولة، ويدفع المجتمع نحو مزيد من الفقر والغضب الصامت.
الراتب ليس مطلبًا سياسيًا، ولا ورقة تفاوض، ولا أداة عقاب جماعي؛ إنه حق دستوري وقانوني. وأي سلطة تعجز عن الوفاء به، أو تتعمد تأخيره، مطالبة بتقديم تفسير شفاف، ومحاسبة مسؤولة، لا بصمتٍ يضاعف معاناة الناس.
لا يحتاج الموظف إلى وعود جديدة، بل إلى احترام القوانين القائمة، وصرف راتبه بانتظام، حتى لا يبقى القانون حبرًا على ورق، وتظل الكرامة مؤجلة إلى إشعار آخر.
ينتظر موظفو الدولة ثلاثة أشهر ليُصرف لهم بعدها راتب شهر واحد فقط. وها هو عام 2025م يغادر، وفي جعبته ثلاثة أشهر من المرتبات لم تُصرف أو ما زالت قيد الصرف، في حين غادر عام 2024م وقد أُجّل صرف راتب شهرين فقط، في دلالة واضحة على استمرار سوء الحال من عام إلى آخر و«يا زعيمة جري الصنبوق»!.
