
في كل صباح، كان فطورنا ما تيسر، إما “الخمير”و”المقصقص” من بيت أم محمود، أو “الروتي” من فرن محمد الأعور، مع كأس شاي عصملي دافئ، ذلك الزاد البسيط الذي كان يمنح يومنا نكهته، وكان كافيا لنمضي نحمل في بطوننا القليل، وفي قلوبنا الكثير.
لم نكن نتذمر من قلة، ولم نحمّل والدينا يوما ذنب الزمان، بل حملنا لهما امتنانا لا ينضب، لأننا كبرنا بين أيد طيبة، وقلوب نقية، لم تبخل علينا بعطف أو حنان، رغم قسوة الحياة.
كان قصرنا الكبير في المنصورة، مكونا من غرفتين و”دارة” بسيطة تربط بين الغرف، المطبخ، والحمام، على الطراز الهندي القديم. بيتٌ ضيق بجدرانه، واسعٌ فسيح بدفئه وأهله، تسكنه البركة رغم أن عددنا يتجاوز العشرة، من إخوة وأخوات، إلى والدَينا، رحمهما الله. ومع ذلك، كان بيتنا كالفندق المتواضع، ومأوى لمن قصده في المدينة، حين كانت أرياف البلاد تعاني غياب كل مقومات الحياة، من أبسط خدمات العلاج إلى التعليم.
عدن، في ذلك الزمن، كانت مدينة صغيرة، لا تكاد تفصل بين حاراتها. يعرف الناس بعضهم كأنهم عائلة واحدة.
الكهرباء لم تكن عبئا كما هي اليوم، بل كانت محسوبة بعدد المساكن، والعدالة في توزيعها أمر بديهي. في كل غرفة مروحة سقف واحدة، تشغل بحساب، وتطفأ بحكمة. لم يكن التقنين إجراءً حكوميا، بل قرارا عائليا نمارسه بحب وتعاون، خشية أن تُثقلنا الفاتورة، أو أن نكسر ميزانية الشهر.
بدأت تعليمي في “كلية بلقيس الخاصة”، ثم انتقلت إلى “مدرسة الجمهورية” الحكومية، الواقعة قرب “مدرسة الثورة”، على مقربة من جولة عبدالقوي. كنا نقطن في المنصورة، والطريق إلى المدرسة طويل، يمتد على كيلومترات، لكن أقدامنا الصغيرة كانت تعرف دربه جيدا. لم نكن نشتكي المسافة، بل نقطعها كل صباح بنفس راضية، نحمل أحلامنا على أكتافنا، ونعود مع الظهيرة مبللين بعرق الجد، لا تملنا الشمس، ولا ينهكنا التعب.
وكان من الطرائف أنني وزميلي الراحل صلاح عائض، الذي كنا نلقبه بـ”صلاح آموس”، كنا نعشق الجري إلى المدرسة والعودة منها “عدوًا”، وكأنّ الخطوات لا تُحتسب، وكأننا في سباقٍ لا ينتهي. وعندما يخاصمني “آموس”، كنت ألوذ بصديقي وأخي في الحياة المهندس محمد حسين العمراني، الذي مثّل لي دومًا كفّة العقل أمام جنوني، واتزان الفكر أمام عفويتي. بينه وبين “آموس” كانت هويتي المزدوجة تتأرجح: بين رجاحة العقل ونزق الروح.
رغم قسوة الحياة، كانت تلك الأيام عامرة بالحب، مشبعة بالقيم، ومليئة بتفاصيل صغيرة صنعت فينا شيئا كبيرًا. نعود إليها كلما ضاقت بنا السبل، نسترجع منها ما فقدناه: الرضا، والقناعة، ونقاء النوايا، وصفاء القلوب.
انتقلنا بعدها إلى “مدرسة 30 نوفمبر” في الشيخ عثمان، القريبة من حي عمر المختار. رغم بُعد المسافة لم نغيّر عادتنا، كنا نقطع الطريق مشيا، بكل صبر وفرح، كأنها رحلة يومية نحو النضج. وإذا أصابنا العطش تحت شمس عدن الحارقة، نطرق أي باب على الطريق طلبا لشربة ماء، وكم كانت الأبواب مفتوحة، والقلوب أرحب من المداخل.
وما يميز تلك العلاقات التي رافقتني عبر مراحل حياتي الدراسية، أنها لم تكن عابرة كغيرها، بل كانت ضاربة في جذور القلب والذاكرة.
ما زلت إلى اليوم على تواصل دائم مع من شاركوني مقاعد الابتدائية، وساروا معي خطوة بخطوة حتى أكملنا مشوارنا العلمي والعملي. وكلنا مجتمعون اليوم في جروب واحد على “الواتس”، يقوده طيب الذكر المهندس طيار نبيل حمود، كأنما الزمن لم يفرقنا يوما، وكأن أعوام العمر التي مرت لم تطفئ جذوة المحبة بيننا.
تجمعنا الأخوة التي لا تهزها المسافات، ولا تفت فيها الأيام. علاقة تشبه ما بين المرء ونفسه، لا تفرق، لا تنسى، ولا تزول.
وما ينبغي ألا ننساه أبدا، أن هذا الجيل “جيل الطيبين” الذي عاش البساطة، وتربى على القناعة، وشق طريقه بين صخور الحياة، هو ذاته الجيل الذي أنجب قامات يُشار لها بالبنان، بين وزير ونائب وزير، وقادة عسكريين وأمنيين، ومهندسين كبار، ومحامين، واقتصاديين، وقادة سياسيين، وكتاب، وصحفيين، وإعلاميين.
جيل لم تقهره قسوة الظروف، بل صنعت منه رياحها أشرعة للمجد والنجاح.
هكذا كانت الحياة، وهكذا كانت الناس في عدن الحبيبة.
ليت تلك الأيام تعود.
ليت البساطة تعود.
ليت النوايا الطيبة تعود.