
كان التعايش في مدينة عدن هو سمة الحياة، والنظام والقانون هو المنظم والضابط لهذه الحياة. ولهذا كانت حياة ثرية بالتعدد العرقي والطائفي والفكري والثقافي، خلاصاتها التعايش جنبا الى جنب من أجل حياة كريمة وتسامح وسلام واستقرار، وهي بيئة خالية من النزعات السلبية والتعصب الطائفي والعرقي والمناطقي والعقائدي. وبهذا الثراء نهض المجتمع وارتقى لمستوى التحضر والتقدم ليواكب تطورات المجتمعات المحترمة التي تحترم الآخر، فكانت عدن حينها منبرا ثقافيا وفكريا وسياسيا، فيها المساجد والمعابد والكنائس جنبا إلى جنب بعض، فتميزت عن غيرها من مدن المعمورة بالأمن والأمان والتسامح والسلام والتعايش. وكانت بيئة استثمارية جاذبة للشركات ورجال الأعمال، فارتقى ميناؤها لثاني ميناء عالمي، وفيها وكالات لكبرى الشركات العالمية. كانت مصدر رزق لمن يزورها بحثا عن الرزق، ومصدر علم لكل باحث علم، ومصدر كل جديد للمنطقة.
بدأت التوترات في الشرق الأوسط منذ اتفاقية “سايس بيكو”، وهي معاهدة سرية وقعتها بريطانيا وفرنسا عام 1916م، وصادقت عليها روسيا وإيطاليا، بهدف تقاسم أراضي الإمبراطورية العثمانية في منطقة الهلال الخصيب بعد الحرب العالمية الأولى. نصت الاتفاقية على تقسيم المنطقة إلى مناطق نفوذ فرنسية وبريطانية، ووضعت فلسطين تحت إدارة دولية، ورسمت حدود الدول العربية التي لا تزال موجودة حتى اليوم مثل سوريا والعراق ولبنان والأردن.
وما يتداول اليوم من مطالب إسرائيلية لحقوق اليهود في عدن، بحجة أنهم تعرضوا لحرب دفعت بهم لترك أموالهم ومساكنهم والنزوح لفلسطين، فيها الكثير من المغالطات والدسائس، وهي مؤامرة على عدن منذ ذلك الزمان الذي أريد فيه وقف دور هذه المدينة الريادي في نهضة وتطور ورقي الأمة، حيث بدأ المستعمر يرسم مخططاته لضرب مقومات الوطن العربي ومشروعه القومي، ويشعر أن عدن كانت منبرا مهما من منابر الدعوة لهذا المشروع، بل فيها مقومات النهضة والتطور، وبدأ يخطط أولا لفرض أمر واقع على اليهود لترك عدن.
لم تحدث في عدن حرب ضد اليهود، بل هو شغب مدفوع من المستعمر نفسه. وما حدث في فلسطين من مذابح كان له الأثر الكبير في إثارة هذا الشغب. كان البريطانيون يدفعون للمشاغبين لكي يعكروا صفو حياة اليهود في عدن، ليقبلوا بالهجرة إلى فلسطين، وكانت هناك اتفاقيات مع السلاطين والإمام حول هذه الهجرة، ما جعل عدن منطقة تحتوي على مخيمات يهودية استعدادا لترحيلها، وما منطقة حاشد في المنصورة إلا تسمية ليهود حاشد الذين خيموا فيها، ولم يتعرضوا لأي حالة عنف من قبل سكان عدن، وهذا دليل أن حالة الشغب التي يطلق عليها البعض “حرب اليهود” هي مسرحية استعمارية تهدف لتنفيذ سياسة التهجير لليهود من عدن. وفعلا اضطر اليهود للرحيل، رحل بعضهم إلى فلسطين، والرافضون للمشروع الصهيوني واغتصاب فلسطين هم جالية كبيرة ليهود عدن في بريطانيا، وما زالوا يمارسون عاداتهم وتقاليدهم العدنية، ويحنون لمدينتهم عدن، وما زالوا يعيشون نمط الحياة التي تربوا عليها في عدن من تعايش وسلام، ويرحبون بكل عدني ويمني وعربي في جلساتهم واحتفالاتهم بحب وتسامح ووئام.
معظم حالة الشغب كانت عام 1947م، والكل يعرف ماذا جرى في فلسطين للعرب والمسلمين من قبل الصهاينة في تلك الفترة، وكانت انعكاسا لتلك الأحداث ودعم المستعمر لهدف وغاية، وهي أحداث تعبر عن طبيعة المؤامرة التي كان وراؤها الغرب ورأس حربة المستعمر البريطاني. وفي 1967م مع خروج المستعمر وأحداث الحرب الأهلية، كانت هناك حالة شغب بسبب حالة الغليان ضد المستعمر ودعمه للصهاينة.
وما زالت عدن تحتفظ بذكرى وجود هذه الطائفة كإرث تاريخي للمدينة، فما زالت مقابرهم ومعابدها ومساكنهم بنفس النمط اليهودي، حتى نجمة داود ما زالت ماثلة في واجهات المباني، تعبيرا عن احترام هذه الطائفة وفترة التعايش المحمود الذي كان فخرا لمجتمع راق ومتطور. بل بعض اليهود رفض ترك عدن واستمر يعيش فيها، وهي عائلات محدودة ومعروفة في المجتمع العدني، من أسلم منهم سمي مسلماني، وهناك روايات يؤكدها من عاشوا تلك الفترة بأن بعض المساكن تم شراؤها، وبعضها كان قديما ومهجورا وتدمر، وتم بناء مساكن جديدة، وهي حالة طبيعية لما حدث ومازال يحدث بسبب عداء الغرب للإسلام والعرب، الذي دفعهم للتآمر على عدن والتآمر على اليهود فيها.
مازال معبد اليهود قائما يدافع عنه أبناء عدن باعتباره إرثا عدنيا، وأقام ناشطون عدة وقفات ضد تسليمه لمتنفذ.
فلا تنطلي عليكم حكاية حرب اليهود، وما يروج من تعويضات كبيرة. المتسبب الرئيس في حالة الشغب هو المستعمر، وإن كانت هناك حقوق لليهود فالمستعمر هو المدان الذي ترك عدن بعد أن أثار فيها فتنة هاربا من حقوق ومستحقات 129 عاما من الاستعمار، واستثمار موقع عدن عسكريا واقتصاديا، واستنزف ثروات البلد، مع أن للمستعمرة حقوقا ومستحقات، وما حدث لليهود كان للمستعمر يد فيه وهو المطالب بكل الحقوق والمستحقات، فلا تتخذ هذه المطالب ذرائع للضغط على السلطات للعودة إلى عدن لاستثمارها كقاعدة عسكرية ومركز تموين للبواخر.
عدن فيها مجتمع واع ومدرك لحجم المؤامرات، ولن تنطلي عليه هذه المطالب كوسيلة لاستعمار عدن كما حدث لسفينة “داريا دولت”.