
نشأة دينية… وتكريس للمعرفة الشرعية
بدأت الجامعات الإسلامية الثلاث الكبرى، الزيتونة (737م) في تونس والقرويين (859م) في المغرب والأزهر (972م) في مصر، كمدارس علمية عريقة استقطبت طلبة من أنحاء العالم الإسلامي، وارتكزت على تدريس العلوم الشرعية، الفقه، اللغة، والمنطق. لم تكن هذه المؤسسات مجرد أماكن للدراسة، بل مثلت فضاءات لتشكيل الهوية الفكرية للأمة الإسلامية، وخرجت منها أجيال من الفقهاء والعلماء الذين أثروا الحياة العامة بالفتوى والاجتهاد.
وبالمثل، انطلقت جامعتا بولونيا (1088م) وأوكسفورد (1096م) من رحم الكنيسة، حيث كان اللاهوت والقانون الكنسي في صدارة العلوم التي تُدرّس. كانت الجامعة، في كلا النموذجين، مؤسسةٌ تؤسس للمعرفة وتنشرها تحت عباءة الدين، وتعكس في الوقت ذاته البنية الفكرية والسياسية للعصور الوسطى.
مسارات متباعدة: التنوير مقابل الجمود
بداية التشظي جاءت من التحول الجوهري في مفهوم “العلم” والمعرفة في أوروبا في أواخر العصور الوسطى. فمع عصر النهضة، بدأ العقل الأوروبي يتجه نحو استقلالية المعرفة عن الدين، فدخلت الفلسفة والفيزياء والرياضيات والطب والفنون إلى الحرم الجامعي، وشيئًا فشيئًا، أصبحت الجامعات الغربية ساحات للعقلانية والتجريب والشك المنهجي. هذه النقلة التاريخية لم تكن مجرد تغيير في المقررات، بل كانت تحوّلًا في الذهنية؛ إذ انتقلت المعرفة من حراسة الموروث إلى مغامرة الاكتشاف.
على النقيض، خضع التعليم الإسلامي لتقليد قَبْلي وتحجيم متزايد للعلوم العقلية والتجريبية. بعد الاجتياح المغولي وسقوط بغداد، ثم هيمنة الفقه السلطاني، تراجعت الرياضيات، والطب، والكيمياء، والفلك في الحواضر العلمية الإسلامية، ولم تُدمج في المناهج الرسمية للجامعات التقليدية. وبهذا ضاعت تدريجيًا حيوية العقل العلمي الذي مثّله ابن الهيثم والرازي وابن النفيس، وبقيت الجامعات مأسورة في حقل ضيق من العلوم الشرعية.
ولم يقتصر الجمود على العلوم الطبيعية، بل امتد أيضًا إلى العلوم الإنسانية والاجتماعية. فهذه الأخيرة، بدل أن تنفتح على مناهج النقد والتحليل، بقيت أسيرة للعقل البياني والنقلي، وفق ما وصفه محمد عابد الجابري في مشروعه الفكري حول “العقل العربي”. لقد ظل العقل البرهاني، القائم على الاستدلال والبرهان، مهمشًا، بينما هيمنت أساليب الحفظ والتفسير على حساب المناهج الوضعية والنقدية التي شكلت أساس علم الاجتماع والأنثروبولوجيا والعلوم السياسية في الغرب. وهكذا، بينما أنجبت الجامعات الأوروبية روادًا أسّسوا للحداثة الفكرية والعلوم الاجتماعية مثل جون لوك وأميل دوركايم وباروخ سبينوزا وجان جاك روسو وماكس فيبر، بقيت الجامعات الإسلامية بعيدة عن إنتاج فكر نقدي قادر على قراءة المجتمع وتحولاته.
استقلال الجامعة… مفتاح التحول
حصلت جامعات مثل بولونيا وأوكسفورد مبكرًا على مواثيق ملكية أو بابوية ضمنت لها استقلالًا إداريًا وعلميًا، ما سمح بنمو تدريجي لمجالس الكليات، وانتخاب العمداء، وتوسيع التخصصات. هذا الاستقلال لم يكن شكليًا فحسب، بل أسس لثقافة مؤسسية تتيح للجامعة أن تعيد إنتاج ذاتها مع كل جيل جديد.
في المقابل، بقيت الجامعات الإسلامية تحت سلطة المؤسسة الدينية أو السلطان الحاكم، ولم تُطوَّر بنية مستقلة تتيح لها التوسع أو التجديد المؤسسي. بل إن محاولات الإصلاح في القرن العشرين غالبًا ما رافقها تأميمٌ للأوقاف، مما عطّل استقلالها المالي وزاد من تبعيتها للدولة المركزية.
التمويل: من أوقاف السُّوق إلى صناديق الاستثمار
في العصر الذهبي للإسلام، كانت الأوقاف تمول التعليم والعلماء، وتوفر الطعام والسكن والكتب للطلبة. جامع الزيتونة مثلاً كانت له أوقاف على الأسواق، والمزارع، والعقارات، وكذلك الأزهر الذي دعم آلاف الطلاب عبر أوقاف عينية ومادية. غير أن هذه الأوقاف تدهورت بفعل التأميم، والإدارة البيروقراطية، وفقدان الرؤية الاستثمارية، لتتحول إلى عبء إداري بدل أن تكون مصدرًا للتجديد.
أما الجامعات الغربية، فقد طورت نموذجًا حديثًا لصناديق الوقف، تُدار من خلال استراتيجيات استثمارية دقيقة، وتُستخدم في تمويل البحث العلمي، والمنح، ورواتب الكفاءات، وتوسيع البنية التحتية. فجامعة أوكسفورد اليوم تدير صندوقًا وقفيًا يقارب 12 مليار دولار، بينما تملك جامعة هارفارد الأمريكية وقفًا يتجاوز 50 مليار دولار. هذا الفارق في إدارة الوقف جعل الجامعات الغربية قادرة على تمويل أبحاث متقدمة في الذكاء الاصطناعي والطب الجيني والطاقة المستدامة، بينما بقيت الجامعات الإسلامية في موقع المتلقي لما ينتجه الآخر.
الخلاصة: إرث ضائع وفرصة ممكنة
إن الجامعات الإسلامية لم تفتقر إلى الرؤية أو الأوقاف أو العراقة، لكنها افتقرت إلى التحديث المنهجي، والاستقلال المالي، والانفتاح المعرفي. وبينما أعادت الجامعات الغربية اختراع ذاتها مع كل مرحلة فكرية، من الإصلاح إلى التنوير إلى الثورة الصناعية، بقيت الجامعات الإسلامية حبيسة الإطار الذي نشأت فيه، دون تحديث وظيفي أو معرفي.
اليوم، ومع عودة الحديث عن الوقف التعليمي وضرورة إحياء النموذج الحضاري الإسلامي في التعليم، فإن الفرصة سانحة لإطلاق مشروع جامع بين الأصالة والحداثة: مؤسسة تعليمية تجمع بين رسوخ الأزهر والزيتونة والقرويين، وابتكار أوكسفورد وبولونيا وهارفارد. جامعة وقفية، مستقلة، شاملة، ومتجددة، تكون مختبرًا للعقل المسلم في القرن الحادي والعشرين، وتستعيد ما فقدناه من موقع ريادي في إنتاج المعرفة، بدل الاكتفاء باستهلاكها.