في حياة كل إنسان هناك وجوه لا تُنسى، كانت يوماً ما نجوماً نهتدي بها وسط عتمة الواقع. أولئك الذين شكّلوا وعينا، وأسكنونا الإلهام، وأعطوا لحياتنا معنى يتجاوز الرغيف والكهرباء والماء. ثم، فجأة، تكتشف أنك تعيش زمنًا لم يعد فيه لتلك الوجوه حضور، لا لأنهم رحلوا جسداً فقط، بل لأن الزمن جار عليهم، والدولة غابت عنهم، والمجتمع تغيّر حتى صار لا يعرف فضل من سبقوه.
ليس الفقد وحده ما يوجعنا، بل موت القدوة فينا ونحن أحياء. حين ترى معلمك الذي كان يزرع الحلم فينا ونحن صغار، يجلس اليوم على رصيفٍ لا يلتفت إليه أحد. حين ترى المثقف الذي كان يكتب من أجل وطنٍ أجمل، يبحث عن ثمن علاج الضغط والسكري. حين تسمع عن القائد الذي كان يحمي الناس، وقد صار عاجزا مشلولا بلا عون.
الموت الحقيقي ليس في توقف القلب، بل حين تتوقف الدولة عن تذكّر من بنوها وعمروها حجرا على حجر.
حين تغيب الدولة، لا تغيب مؤسساتها فقط، بل تغيب معها الذاكرة. لا يعود هناك من يكرّم الرواد، أو يداوي الشرفاء، أو يسأل عن أولئك الذين جعلوا من الحلم واقعاً.
وحين تُهمل الذاكرة، يضيع التاريخ، ويكبر جيل لا يعرف أن في هذا الوطن رجالاً ونساءً صنعوا مجده، ثم تُركوا في بيوتهم يواجهون مصيراًٍ يشبه الخذلان.
تصبح الأوطان مثل بيتٍ بلا صور، لا أحد يعرف من سكنه قبله، ولا لماذا بُني أساساً.
ما أقسى أن يشيخ الإنسان وهو يرى من حوله يتنكرون لما قدّمه.
يُصاب بالعجز فلا يجد من الدولة إلا التجاهل، ومن المجتمع إلا النسيان.
وتصبح الحياة بالنسبة له انتظارًا بطيئًا للموت، لا لشيء، بل لأننا لم نتعلم كيف نحترم من تركوا أثرًا.
كانوا في زمنٍ ما وجوه العزّ، واليوم وجوههم تذبل في صمتٍ موجع، كأنهم يدفعون ثمن إخلاصهم.
غياب الدولة لا يعني فقط غياب المرتب والدواء، بل يعني أن القدوة تموت، والمثال يختفي، والجيل الجديد لا يجد من يحتذي به.
فتنبت مكان القدوات رموز زائفة، نجوم شهرة، وضجيج فارغ، وأبطال من ورق.
وحين تُصبح القدوة سلعةً تُباع بالترند والمتابعة، يتحوّل المجتمع إلى قطيعٍ تائه، بلا بوصلته الأخلاقية، وبلا ذاكرته.
إن إنقاذ القدوة يبدأ بإعادة الاعتبار للرموز الحقيقية، أولئك الذين قدّموا للوطن دون أن يطلبوا مقابلاً.
لذا يجب أن تتبنى الدولة والمؤسسات الإعلامية والثقافية مشروعاً لإحياء سير الأسماء التي صنعت الفارق في حياتنا.
ـ نكرّمهم وهم أحياء، لا نكتب عنهم قصائد بعد موتهم.
ـ نوفر لهم حياة كريمة تحفظ ما تبقى من كبريائهم.
ـ نعيد بناء الوعي العام ليعرف الأجيال أن للأوطان آباء وأمهات حقيقيين لا يموتون بالتقادم.
إن القدوة ليست شخصاً فحسب، بل ذاكرة وطنية تحفظنا من السقوط الأخلاقي.
وإذا ماتت القدوة، ومات الضمير العام، فلن يبقى لنا سوى البكاء على زمنٍ كانت فيه الدولة دولة، والرجال رجالاً، والقدوة نجمةً نهتدي بها في الليل الطويل.
ويا للخذلان حين يصبح الوفاء تهمة، والعجز عقوبة للذين خدموا بشرف.
