
لم يسفر النظام العالمي الجديد سوى عن حروب لا تنتهي وديون بالتريليونات ومئات آلاف الضحايا وشرق أوسط أقل استقراراً مما كان عليه في عام 1990 كتب ليون هادار في ناشيونال إنترست.
يصادف اليوم الذكرى 35 لخطاب جورج بوش الأب أمام الكونغرس في 11 سبتمبر عام 1990، الخطاب الذي عرّف الأمريكيين برؤيته لـ”نظام عالمي جديد”. ويجدر بنا أن نتأمل كيف ابتعد هذا الوعد الطوباوي بشكل كبير عن واقع السياسة الدولية المضطرب.
لقد رسم بوش صورة لتعاون عالمي غير مسبوق أثناء وقوفه أمام الكونغرس، بينما كانت القوات العراقية تحتل الكويت، وأعلن: “نقف اليوم في لحظة فريدة واستثنائية”. وكان يتخيل عالماً تُحقق فيه الأمم المتحدة وعدها التأسيسي، ويُقابل فيه العدوان برد دولي موحد؛ حيث تقود القيادة الأمريكية البشرية نحو مستقبل أكثر سلاماً وازدهاراً.
حرب الخليج والمنطق المغري للخير المعمم
مثّل النظام العالمي الجديد الذي أرساه بوش ذروة ما يمكن أن نسميه “المثالية المهيمنة” – الاعتقاد بأن القوة الأمريكية، إذا ما استُخدمت على النحو الصحيح، قادرة على إعادة تشكيل النظام الدولي على غرار الديمقراطية. وبدا انهيار الاتحاد السوفيتي وكأنه قد برّر عقوداً من استراتيجية الاحتواء، تاركاً الولايات المتحدة أول قوة عظمى عالمية حقيقية في التاريخ. فما الذي قد يكون أكثر طبيعية من استغلال هذه “اللحظة الأحادية القطبية” لإرساء سلام دائم؟
لقد بدا أن حرب الخليج نفسها قد برهنت على صحة هذه الرؤية. فقد طرد تحالف دولي واسع، يعمل تحت رعاية الأمم المتحدة، القوات العراقية من الكويت بسرعة بأقل الخسائر الأمريكية. وهنا ظهرت تعددية الأطراف قوية، مدعومة بتفوق عسكري أمريكي ساحق. وبدا أن أشباح فيتنام قد طُردت أخيراً.
لكن هذا الانتصار، كغيره من الانتصارات، كان يحمل في طياته بذور كوارث مستقبلية. فقد شجعت سهولة الانتصار في الخليج على غرور خطير تجاه القدرات الأمريكية ومرونة السياسة الدولية. وإذا كان من الممكن دحر صدام حسين بسهولة، فلماذا لا تُطبّق الصيغة نفسها في مكان آخر؟ ولماذا لا نعمل على توسيع حلف شمال الأطلسي شرقاً، والتدخل في البلقان، ونشر الديمقراطية في الشرق الأوسط، واحتواء القوى الصاعدة؟
تكاليف التوسع المفرط للولايات المتحدة
بعد 35 عاماً يبدو النظام العالمي الجديد أقرب إلى قصة تحذيرية من التوسع الإمبريالي، منه إلى انتصار للقيادة الأمريكية. حيث خاضت الولايات المتحدة حروباً في الصومال وهايتي والبوسنة وكوسوفو وأفغانستان والعراق وليبيا وسوريا، وكانت نتائج معظمها أكثر فوضوية من الدقة الجراحية لعملية عاصفة الصحراء. وكل تدخل ولّد التزامات جديدة، وأعداء جدد، وتعقيدات جديدة تطلبت تدخلات إضافية للتعامل معها.
ولننظر إلى المسار من انتصار بوش المُقيّد عام 1991 إلى غزو ابنه الكارثي للعراق عام 2003، حيث احتفظ النظام العالمي الجديد لبوش الأب، على الأقل، ببعض الصلة بسياسات القوى العظمى التقليدية من تشكيل تحالفات حقيقية والحصول على تفويض من الأمم المتحدة والحفاظ على أهداف محدودة. أما “أجندة الحرية” لبوش الابن، فقد استغنت عن هذه التفاصيل الدقيقة، وتبنت رؤيةً مسيحيةً للقوة الأمريكية كانت ستجعل وودرو ويلسون يخجل.
والنتائج تتحدث عن نفسها: حروب لا تنتهي وديون بالتريليونات ومئات الآلاف من الضحايا وشرق أوسط أقل استقراراً بكثير مما كان عليه في عام 1990. وفي الوقت نفسه، أثبتت الفوائد المتوقعة كانتشار الديمقراطية وتعزيز القانون الدولي ونهاية الانتشار النووي وتقادم المنافسة بين القوى العظمى أنها كانت خيالية إلى حد كبير.
عودة التاريخ
لعلّ أكثر ما أضرّ بمصداقية النظام العالمي الجديد هو عودة التنافس الجيوسياسي التقليدي. وبروز دول منافسة افتصادياً وعسكرياً تتحدى النظام العالمي الذي فصلته الولايات المتحدة لعقود من الزمن، متجاهلة أن هذه الدول لن تقبل التفوق الأمريكي بسلبية وأن هذا النظام ليس حلاً مستداماً في ظل صعود هذه القوى المنافسة والقادرة على التحدي الفعال.
البعد المحلي
يعكس فشل النظام العالمي الجديد أيضاً حقائق أمريكية داخلية تجاهلها بوش أو أساء فهمها، فالحفاظ على الهيمنة العالمية يتطلب موارد هائلة والتزاماً شعبياً. ورغم أن الشعب الأمريكي أيّد حرب الخليج لأهدافها الواضحة، ودعمها الدولي الواسع، وتكاليفها الضئيلة إلا أنه أظهر حماساً أقل بكثير لمشاريع بناء الدول المفتوحة أو لمواجهة أي نظام استبدادي على وجه الأرض.
وساهم هذا الانفصال بين طموحات النخبة وتفضيلات الشعب في صعود الحركات الشعبوية التي تشكك في دور أمريكا العالمي؛ فمن انعزالية بات بوكانان في التسعينيات إلى أجندة دونالد ترامب “أمريكا أولاً”، رفضت شرائح كبيرة من الناخبين الأمريكيين مبادئ النظام العالمي الجديد. ويتساءلون، بدافع المنطق، عن سبب إنفاق الدم والمال الأمريكي في مراقبة العالم بينما تُترك المشاكل الداخلية دون معالجة.
دروس للمستقبل
بينما نحتفل بالذكرى 35 لخطاب بوش، قد يفكر صانعو السياسات في مواطن الخلل وكيفية إعادة ضبط السياسة الخارجية الأمريكية للقرن 21. تبرز عدة دروس:
أولاً، كانت الأحادية القطبية دائماً مؤقتة. فبدلاً من محاولة الحفاظ على التفوق الأمريكي إلى أجل غير مسمى، كان على واشنطن استغلال التسعينيات لإنشاء نظام متعدد الأقطاب أكثر استقراراً – نظام يمنح القوى الأخرى أدواراً مشروعة مع الحفاظ على المصالح الأمريكية الأساسية.
ثانيًا، للقوة العسكرية فائدة محدودة في تحقيق التحول السياسي. وقد نجحت حرب الخليج لأن أهدافها كانت متواضعة وهي طرد العراق من الكويت وردع المزيد من العدوان. بينما فشلت التدخلات اللاحقة لأنها سعت إلى تحقيق أهداف أكثر طموحاً بكثير لم تستطع القوة العسكرية وحدها تحقيقها.
ثالثًا، يتطلب الدعم الشعبي للسياسة الخارجية فوائد ملموسة للأمريكيين العاديين. والنزعة الدولية التي تُثري شركات الدفاع ونخب السياسة الخارجية بينما على حساب المواطنين الأمريكيين هي نزعة غير مستدامة سياسياً في ظل نظام ديمقراطي.
نحو نظام عالمي أكثر واقعية
بدلاً من الحداد على زوال النظام العالمي الجديد، قد يتبنى الأمريكيون نهجاً أكثر تواضعاً واستدامة في الشؤون الدولية. ويتضمن ذلك الدفاع عن المصالح الحيوية بدلاً من محاولة حل كل مشكلة عالمية، والعمل مع الحلفاء كشركاء حقيقيين لا تابعين، والاعتراف بأن للقوى الأخرى مخاوف أمنية مشروعة تستحق الاحترام.
ولن يتخلى هذا النهج عن القيادة الأمريكية، بل سيمارسها بحكمة أكبر. وسيركز على الأهداف الجوهرية؛ كحماية الوطن والحفاظ على علاقات التحالف وضمان الرخاء الاقتصادي، مع تجنب الحروب الصليبية الوهمية.
لا بد أننا أصبحنا أكثر وعياً الآن وعلينا أن نصوع سياسات خارجية تناسب عالماً يتمتع فيه النفوذ الأمريكي بثقله، ولكن مع احترام القوى الأخرى ومع أخذ رفاهية الشعب الأمريكي بعين الاعتبار.
لقد انتهى النظام العالمي الجديد، وليبدأ الدور الأمريكي الأكثر واقعية واستدامة في العالم.