لا يمكن تجاهل ما تعانيه اليمن بكل مناطقها جبالها ووديانها، صحاريها والبراري، المدن والقرى، فالحديث عن عدن، هو حديث عن نموذج خاص، لمدينة ذات خصوصية، وعاصمة سياسية واقتصادية، المفترض ان تكون الافضل من حيث الاهتمام والرعاية، لأنها تمثل وجه السلطة ونموذج حكمها، فالنظر اليوم لواقع عدن السيئ يقدم صورة سيئة للسلطة القائمة.
عدن التي تصطلي بحرارة الشمس الشديدة اليوم، تلك الحرارة التي تختزنها جبال عدن ومبانيها الخرسانية، والمباني القديمة المبنية بحجارة جبل شمسان، وكل هذا الكم يخزن الحرارة في النهار ويشعها في الليل، في شوارع ضيقة وزقازيق خططها المهندس البلدي وفق مبدأ التسامح والتعايش الذي امتازت به عدن، لم يضع في حساباته ان يأتي يوم على عدن لتتحول تلك الزقازيق لأفران تختزن حرارة الشمس وتشعها كهرا، في مدينة لم تعد تعرف الكهرباء والتكييف، وتفتقر لرش الماء امام البيوت للتخفيف من تلك الحرارة، عدن التي عرفت الكهرباء مبكرا، وكانت المياه تضخ بقوة لكل بيت ومرتفع، اليوم تعود للخلف سنوات من التخلف والعسر والمعاناة، حيث لا كهرباء ولا ماء ولا خدمات تذكر، ولا راتب يمكن ان يوفر للأسرة والفرد حياة كريمة، واحتياجات ضرورية، اليوم عدن مدينة لا تنام من شدة الحر والكهر والمعاناة اليومية للسكان، فكيف سيكون حال المرضى بالضغط والسكر؟، اصبح الموت في عدن واقعاً يومياً.
من ذكريات كبار السن من الاولين، عدن قبل ان تعرف الكهرباء كان حالها افضل من اليوم، عرفت بابور الجاز، والفانوس والتريك والنوارة، ويتذكرون الوراد الذي ينقل للبيوت الماء، وكانت عدن حينها بسكانها المحدودين وبيوتها البسيطة وشوارعها الضيقة كزقازيق لا تشعر بحرارة الشمس، كان يكفي رشة ماء ونسمة هواء تلطف الجو، اليوم تكتظ عدن بالعشوائيات وتضيق شوارعها اكثر وتختنق، حيث لا ماء يرش ولا نسمة هواء يمكن ان تتسلل الى ابواب ونوافذ البيوت، والناس تصطلي بحرارة الشمس نهارا وكهر الجبال وخرسانات المباني ليلا.
حتى الراتب لم يعد يكفي لسد رمق الاسرة، وكانت عدن في معظمها موظفي دولة ومؤسسات خاصة، من ذوي الدخل المحدود، وتعودوا على التكافل الاجتماعي والتآزر، فعرفت في عدن (الهكبة ) وهي جمعية يتفق فيها اهل الحي على جمع مبلغ شهري تستلمه اسرة وفق القرعة، وفي كل حي ومنطقة توجد (هكابة) تدير تلك الجمعية، تستطيع الاسرة من خلال الهكبة ان تشتري احتياجاتها المنزلية، واليوم اصبحت وسائل الطاقة البديلة هي الاحتياج الضروري، وتزينت سقوف المساكن بالألواح الشمسية، وفي كل بيت بطارية، تشحن لتوفر للأسرة مروحة تهفهف نسمة هواء، وضوءاً في المساء، واليوم زادت المعاناة بعد ان اصبح انقطاع الكهرباء عشرين ساعة، فساعتان من الكهرباء لا تكفيان لتعبئة البطارية، فاصبح صفير البطاريات يسمع كنذير شؤم في عدن، والراتب لا يحتمل مبلغ الهكبة، لأنه بالكاد يوفر لقمة العيش، ووجبة في اليوم.
لم نتوقع ان يصل بنا الحال لما وصلنا اليه في عدن، والناس تنتظر الامل القادم من خارج حدود الوطن، حيث اصبح الامر بيد التحالف العربي، والتسويات والتوافقات بين المتنازعين في تشكيل سلطة لم تستقر في مدينة اصبحت غير صالحة للحياة، سلطة لم تتحمل سخط وغضب الناس لحالهم، حال لا يسر عدواً ولا صديقاً، وكلما اشتد الصراع اشتد الحصار على عدن، في شعور كأنه تعذيب لمدينة كانت ذات يوم مصدر خير لكل من حولها، ومنارة اشعاع ثقافي وفكري، ومدرسة تأهيل وتشذيب وتقويم للعقل والفكر السلوك، من دخلها تمدن وتعلم وتطور وارتقى لمصاف الامم الناهضة، اليوم تجهّل ومدارسها مغلقة ومعلموها جياع ومواطنوها يصارعون الفقر والمجاعة.
مهما حاولت الحكومات المتعاقبة والسلطات المتوالية على عدن، فلن تتحسن صورتها الا في نموذج عدن، هي الصورة الحقيقية للسلطة والوجه الحقيقي امام العالم، حتى التحالف لن ينجح الا اذا نجح في عدن، مع اننا نراهن على الداخل اكثر من رهاننا على الخارج، ولن يصلح حالنا ما لم نصلح ذواتنا، ونعرف ان عدن هي البداية ومنها يمكن الانطلاق لمصاف الدول المحترمة، التي تحترم الانسان وتوفر له سبيل الحياة الكريمة، والله الموفق.