( إذ قال الحواريون ياعيسى بن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين ، قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين ، قال عيسى بن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين ، قال الله إني منزلها عليكم ، فمن يكفر بعد منكم ، فإني ، أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين) المائدة - 112 – 115.كان الشيخ علي يعاني من الفقر والجوع .. ولا أحد من الناس يصغي إليه اويعبأ بحالته وهمه وأحزانه .. وقد ضاقت به السبل وتمكن منه اليأس .. هنا توجه الشيخ يخاطب ربه مباشرة .. والقرآن الكريم يقول ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة ألداع إذا دعان) .يقف الشيخ في وسط القرية وهو يكاد يموت من الجوع والهوان يشكو حاله إلى الله بصوت مرتفع يسمعه أهالي القرية الذين التفوا حوله .. ثم ينهي الشيخ شكواه بتهديد غريب حيث يطلب من الله سبحانه ( مائدة من السماء ) فيها ( جوز فراخ وطبق عسل نحل ورصة عيش ساخن .. على شرط ساخن .. وأوعى تنسى السلطة ! ) .. ثم يقول وأهل القرية يستمعون إليه مذعورين ( وحاعد لغاية عشرة ، والنبي إذا ماجات لي المائدة من السماء لكافر وعامل ما لا يعمل ! ) .لعل الشيخ كان يحس إن كلامه الخالي من الأدب إلى ربه إنما هو كلام موجه إلى الناس ، وليس موجها إلى الله ( الذي يعلم السر ) ويعلم ماهو ( أخفى ) من السر .. ومادامت نية الشيخ طيبة فإن الله سوف يحاسب على نيته وليس على أقواله غير المؤدبة . هدد الشيخ علي بأن يعلن الكفر إذا لم تنزل مائدة عامرة من السماء عليها ما يشتهي من الطعام ، فليس من اللائق أن يطلب من الله ( سند وتش ) بل لابد أن يكون المطلوب طعاماً جيداً شهياً يأكل منه كما يأكل الناس السعداء ! وبعد تهديد الشيخ علي بالكفر إذا لم يحصل على طعامه الذي يشتهيه ويحتاج إليه وقعت ( المعجزة الإلهية ) ولكن هذه المعجزة تحققت بيد الناس ، فقد خافت قرية الشيخ علي أن يعملها الشيخ ويكفر .. ولو حدث هذا فإن العقاب لن ينزل على رأس الشيخ وحده بل سوف يحل بأهل القرية جميعاً ، وسوف يصابون بلعنات السماء وغضبها عليهم لأنهم منعوا الطعام عن الشيخ فأدى به ذلك إلى الكفر والعصيان .. فالمسؤولية عن ( الكفر ) تقع على الجميع ، لأنهم ظلموا ، وتركوا الشيخ يجوع حتى وصل إلى حافة الكفر . وعندما استيقظ ضمير القرية بعد إعلان الشيخ تهديده بالكفر ، سارع اهل القرية إلى البحث عن طريقة يتم بها توفير ( المائدة ) أو ( الطبلية ) التي طلبها الشيخ الجائع من السماء . إستدارت الرؤوس تسأل عمن طبخ في هذا اليوم ، إذ أن كل الناس لايطبخون كل يوم ، وأن يكون عند أحدهم زفر أو ( فراخ ) يعد حادثاً جللاً ، واخيراً وجدوا عند عبدالرحمن رطل لحمة عجل بحالة ، فأحضروه على طبلية ، واحضروا معه فجلاً ، وجوزين عيش مرحرح ، ومخ بصل ، وقالوا للشيخ علي : يقضيك كده ؟ .. وتردد بصر الشيخ بين السماء والطبلية ، وكلما نظر إلى السماء قدحت عيناه شرراً ، وكلما نظر إلى الطبلية احتقن وجهه غضباً ، والجمع يغمره السكون ، وأخيراً نطق الشيخ علي وقال : ( بقى أنا عايز مائدة يابلد غجر تجيبوا لي طبلية ؟! .. وفين علبة السجائر ؟ ) .. فأعطاه أحدهم علبة سجائرة . إلى هنا ينتهي سرد خلاصة لقصة ( طبلية من السماء ) .. لأمير القصة القصيرة الراحل يوسف إدريس .. التي قدم عرضا لها الكاتب الكبير رجاء النقاش في إحدى الصحف المصرية .القصة الادريسية البديعة كما يقول رجاء النقاش ترتفع بنا إلى العديد من المعاني الرائعة العميقة ، وأهمها ذلك الربط القوي بين الدين والحياة ، فالدين على حقيقته يؤكد المسؤولية الجماعية بين الناس وليس الدين هو مجرد إيمان وعبادات يعتمد عليها الإنسان وينفض يديه بعد ذلك من العمل الصالح .. والعمل الصالح هو ما يقدمه الفرد للمجتمع .. لأهله وجيرانه وكل من يعيشون من حوله .. الدين الصحيح يرفض وجود أفراد جائعين ضائعين عاطلين يعيشون بين أناس متفرجين لايبالون ولايهتمون بأمر هؤلاء المحتاجين .. أما تهديد الشيخ علي بالكفر فهو محاولة فريدة لايقاظ الضمير الديني في معناه الحقيقي عند الناس .. لذلك هبت القرية للتعاون على حل المشكلة وتقديم الطعام إلى الشيخ الجائع ومنعه من إعلان الكفر الذي لابد أن تحل معه اللعنات والمصائب والكوارث على رؤوس الجميع .. بل على البلد كلها ! فمتى نهب نحن هنا في عدن .. مدينتنا أو قريتنا كما يريدها البعض أن تكون .. عدن بلاد المسكين .. المساكين اليوم لم يعودوا أولئك النسوة والشيوخ الذين يجوبون الشوارع ويقفون على أبواب المساجد .. ذلك ياسادة ليس سوى ذيل الجمل .. الجمل قابع بين جدران البيوت العتيقة وشقق المنازل الآيلة للسقوط .. في الحارات والشوارع الخلفية .. بل وفي الشوارع الأمامية أيضاً .. حيث الأسر المتعففة التي تبيت على الكفاف .. تأبى السقوط أو أن تضل او تهوى !هل جربتم ياسادة أن تطرقوا ابواب هذه البيوت .. هل تذكر تم وصايا الرسول الكريم.. الجار بالجدار حتى سابع جار .. من لايهتم بشأن المسلمين فليس منهم .. الصدقة تكسر غضب الرب !الصدقة .. وما ادراك ما الصدقة .. جوهرة العمل الصالح .. جوهرة الايمان الصادق.. ولكن يا سادة للصدقة ترجمة عصرية .. هل تعرفونها .. اسمها ( منظمات المجتمع المدني ) .. محو الأمية صدقة .. التعليم والتدريب المهني والفني صدقة .. توفير فرص العمل صدقة .. قروض المشروعات الصغيرة بلا ضمانات بلا فوائد صدقة .. رعاية المرأة صدقة .. رعاية الطفولة صدقة .. رعاية المسنين صدقة .. رعاية العجزة وذوي الاحتياجات الخاصة صدقة .. حماية حقوق الإنسان صدقة .. وحقوق الحيوان .. أيضاً صدقة َ!ياسادة .. الصدقة العصرية هي الطريق إلى المجتمع العصري .. إنها مسؤولية شعبية جماعية .. إنها ثورة حقيقية .. ثورة ضد ظلم الإنسان لأخيه الإنسان .. ثورة اهل العلم والثقافة والمعرفة .. ثورة اهل المال والأعمال .. وقبل هؤلاء جميعاً هي ثورة من يخافون الله!E- mail:[c1] [email protected][/c]
مائدة من السماء
أخبار متعلقة