ما كان يبدو مستحيلاً، أو ممتنعاً، في العلاقة الروسية الأمريكية منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، بل منذ البيرسترويكا الغورباتشوفية قبل عشرين عاماً، بات يبدو اليوم ممكناً مع فلاديمير بوتين: أعني رفع سقف الاعتراض الروسي على السياسات الأمريكية إلى مستوى الاتهام والإدانة. سيكون علينا، من الآن فصاعداً، أن نتذكر مؤتمر ميونيخ لشؤون سياسة الأمن، والشهر الذي انعقد فيه (فبراير 2007)، والكلام الذي قذف به بوتين أمام عشرات من رجال السياسة والأعمال ومن الخبراء والعسكريين من أكثر من أربعين دولة.. بوصفه التاريخ الفاصل بين حقبتين من العلاقة ونمطين منها مختلفين: حقبة استضعاف أمريكا لروسيا وإهانة صارخة لكرامتها القومية، وجدت في بوريس يلتسين وسلطته الفاسدة الخانعة ما يبرر لها مشاعر الكبر والاستعلاء والزراية ببلد القياصرة والبلاشفة، وحقبة بدم متزايد بغطرسة القوة الأمريكية وأثمانها الفادحة المدفوعة من كبرياء روسيا ومكانتها في العالم.دشن خطاب بوتين في مؤتمر ميونيخ لحظة الانعطاف في نظرة روسيا إلى نفسها في مرآة علاقتها بالولايات المتحدة الأمريكية. تعلو هذه النظرة على مستوى الموقف الظرفي لتعرض نفسها في صورة رؤية إستراتيجية، أي كمحصلة لمراجعة سياسية شاملة لمجمل ما تحصل من ميراث للعلاقة بين عظميين سابقين يريد أحدهما بل هو في صدد أن يحولها إلى علاقة إذلالية بين “سيد” مغرور و”عبد” مسالم، ويريد الثاني أن يصحح حال الخلل في التوازن بينهما إلى حيث تصير علاقة متكافئة بين ندين. وهي اليوم مراجعة لا تقبل على ما يشي به خطاب بوتين بأقل من القطيعة الذاتية (=الروسية) مع ماض قريب أليم يرهق وجدان روسيا القومي.وإذا لم يكن في الإمكان حسبان خطاب بوتين مراجعة بالمعنى الذي تفيده العبارة في التقليد السياسي للدول أو للحركات الحزبية، أي بما هي عملية تقييم شامل ومفصل لمجمل الاستراتيجيات والخيارات والوسائل والأدوات (ليس في وسع خطاب “عارض” أن يكون مناسبتها)، فلا أقل من القول إنه (خطاب) يعلن عن عناوينها الرئيس، بل ويذهب أحياناً إلى بعض التفصيل فيها. فلقد أتى الخطاب على أهم معضلات العلاقات الدولية ذكراً وربطاً: النزعة الانفرادية الأمريكية في إدارة شؤون العالم، تضخم النزعة العسكرية والاستعمال المفرط وغير الأخلاقي للقوة، والخروج السافر عن القانون الدولي مع استغلاله ضد الآخرين.. الخ! وهو بهذا المعنى يرقى إلى “بيان مراجعة” قد يفرج عن رؤية أكثر شمولاً مما يستوعبه خطاب “عارض” وإن كان لا بد من التسليم بأن خطاب بوتين نفسه ليس نزوة احتجاجية عابرة (وقد يكون ثمرة جهد مؤسسات عديدة كالجيش والاستخبارات ومراكز الدراسات الرسمية وشبه الرسمية)، مما يفرض النظر إليه من حيث إن له ما بعده.إذا جاز لقارئ خطاب فلاديمير بوتين أن يضع له عنواناً، فلن يكون هناك أفضل من العنوان التالي “نحو شراكة متوازنة في صنع القرار وإدارة الشؤون الدولية”. ربما بدا العنوان هذا غير متناسب مع لهجة الخطاب ومفرداته التقريعية الحادة التي تغرف من قاموس الحرب الباردة (علماً بأن بعض تلك المفردات أتى أكثر شدة مما كانت مفردات تلك الحرب)؛ لكن مطالعة له (للخطاب) قليلة الانتباه إلى شكله، كثيرة العناية بمضمونه، لن تجد كبير صعوبة في إدراك أن وراء اشتداد اللفظ وعنفه مطالب مشروعة ومتواضعة ماكان ليجري التعبير عنها بتلك الحدة لو لا أن ممانعة أمريكية لها بلغت من الكبر والتجاهل والغطرسة حداً فرضت معه حمل تلك المطالب على خطاب نقدي حاد لم يراع تقاليد المجاملة الدبلوماسية كما اعترف بذلك رئيس روسيا في مفتتح حديثه مخاطباً شركاءه في مؤتمر ميونيخ.من النافل القول إن سعي روسيا إلى شراكة في صناعة القرار الدولي وفي إدارة النظام العالمي لا يفصح عن نفسه تحت عنوان إعادة إنتاج القطبية الثنائية بين دولتين ومعسكرين، على نحو ما كان عليه الأمر إبان الحرب الباردة، لسبب لا يحتاج إلى كثير شرح وبيان: انهيار ذلك النمط من القطبية (الثنائية) بانهيار التوازن الدولي، وإنما هو يطل اليوم تحت عنوان الحاجة إلى قيام نظام متعدد الأقطاب يكسر حلقة الاحتكار والانفراد في إدارة الشأن الدولي، ويعيد توزيع السلطة بين القوى الكبرى على الصعيد الكوني بالتناسب مع أحجامها الاقتصادية والعسكرية والسياسية.السؤال البديهي في هذه الحال سيكون: ما هي مصادر القوة التي تستند إليها روسيا في دعوة رئيسها إلى تصحيح الخلل الاستراتيجي الدولي وإقامة النظام العالمي على مقتضى العدل والشراكة؟ وثمة في جواب أولي عن هذا السؤال عناصر ومعطيات توفر دليلاً على أن لهذه الدعوة ما يبررها ويفرضها (وقد يحتاج التوقف عندها إلى جهد تحليلي مستفيض يتجاوز حدود مقالة)، ومن تلك العناصر والمعطيات أربعة رئيسية هي على العموم دون تفصيل: تعافي روسيا التدريجي مما ألم بها من ضعف ووهن في كيانها الاقتصادي منذ النصف الثاني من عقد الثمانينات الماضي (في عهدي ميخائيل غورباتشوف وبوريس يلتسين) واستعادة اقتصادها القومي الحد الأدنى من توازنه، وتزايد حالة المعارضة الدولية لسياسات الولايات المتحدة على الصعيد العالمي وتجاهل تلك السياسات لأقطاب وقوى في النظام الدولي (=الاتحاد الأوروبي على نحو خاص) يتعاظم فعل اعتراضها على نزعة التفرد والاحتكار لدى أمريكا، ثم الصعود الحثيث لقوى اليسار في العالم، وخاصة في أمريكا اللاتينية، وما يستتبع ذلك من تراجع دراماتيكي للنفوذ الأمريكي في مناطق النفوذ التقليدي للولايات المتحدة، وأخيراً ما باتت تشهده الاندفاعة العسكرية العدوانية الأمريكية في العالم من إخفاقات ونكسات حادة في مواجهة شعوب وحركات وطنية مسلحة كما في العراق وأفغانستان وفلسطين ولبنان.يقول بوتين ما يقوله وبين يديه هذه الموارد كلها، وهي قطعاً ليست بسيطة أو رمزية.[c1]نقلاً عن صحيفة الخليج الاماراتية[/c]
روسيا العائدة بقوة إلى الساحة الدولية
أخبار متعلقة