أحيت الأحداث الأخيرة في العراق والشرق الأوسط ذلك السجال الأكاديمي القديم بين من يُطلق عليهم "الواقعيون" و"المثاليون" في مجال السياسة الخارجية الأميركية. "الواقعيون" الذين ينقسمون إلى "ديمقراطيين" و"جمهوريين" يقولون إن إدارة بوش كانت ساذجة عندما دعت إلى نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط، وهو ما يمكن الاستدلال عليه من العنف الطائفي المستمر في العراق والمكاسب البرلمانية التي حققها "الإسلاميون" في مصر وفوز "حماس" في الانتخابات الفلسطينية. وهم يعتقدون أنه في مناخ عاصف مثل ذلك السائد في الشرق الأوسط العربي، فإن الاحتمال الأكبر هو أن تؤدي الديمقراطية إلى إشعال جذوة الإرهاب لا إلى إخمادها. من المعتاد أن ينأى الساسة والمعلقون بأنفسهم عن المسؤولين عن انتكاسات السياسة الخارجية، ونظراً لأن هناك كثيرين ينظرون إلى بوش على أنه رئيس ذو توجهات أيديولوجية زائدة عن الحد وأنه منقطع الصلة بالواقع، فمن الطبيعي أن يريد جميع من حوله وبشكل متزايد الظهور بمظهر يوحي بالواقعية، وعدم التأثر بالاعتبارات الأيديولوجية. وما أخشاه هو أن تظهر أثناء هذه العملية آراء يتفق عليها الجميع تقول إن الديمقراطية في الشرق الأوسط كانت خطأً، وهي ليست كذلك. يجب علينا أن نتذكر أن البديل للديمقراطية هو التواطؤ في دعم الحكومات التي تفتقر إلى رضا شعوبها. وهذا النوع من المقاربات يخلط ما بين مظهر الاستقرار وحقيقة الواقع، ويخون الديمقراطيين العرب، وتفوح منه رائحة النفاق. فأميركا لا تستطيع أن ترمِّم سمعتها الملوثة كزعيمة للعالم من خلال التخلي عن الأشياء التي تبعدها عما هو سائد في دول مثل الصين أو مثل روسيا تحت حكم فلاديمير بوتين. في نفس الوقت يجب علينا ألا نطلق العنان لتوقعاتنا. فالرئيس بوش يقول إن أميركا ملتزمة بدعوة قد جاءتها "من وراء النجوم" لنشر الديمقراطية في مختلف أنحاء العالم. وكوندوليزا رايس تقول إن التحول الديمقراطي في الشرق الأوسط هو الوسيلة الوحيدة لضمان عدم القيام باقتحام المباني بالطائرات. ومثل هذا النوع من الأقوال الخطابية مبالغ فيه. وبما أن حرمان الشعوب من الحرية السياسية أمر سيئ، فإن هذا لا يعني أن ممارسة تلك الحرية ستجيء موافقة لهوانا. فالديمقراطية شكل من أشكال الحكم وليست تذكرة سفر إلى جنة موعودة خالية من الشرور ويتفق كل من يقيم فيها معنا. وإذا ما تطورت الديمقراطية في العالم العربي، فإنها ستفعل ذلك من أجل دفع الطموحات العربية القائمة على الإدراكات العربية للتاريخ والعدالة قدماً إلى الأمام. فليس من المرجح أن يؤدي التمتع بحق التصويت وحق شغل المناصب إلى تلطيف المواقف العربية تجاه إسرائيل أو إنهاء احتمالات الإرهاب، تماماً مثلما أنها لم تمنع الخلايا الإرهابية من تنظيم نفسها في الغرب. بيد أنه يتوجب على الديمقراطية على الرغم من ذلك أن توجد سجالاً أوسع نطاقاً وأكثر انفتاحاً في الدول العربية وإلى إخضاع الأساطير للتحقق والتمحيص والأفكار المتطرفة للتفنيد والنقض. وعلى الرغم من أن البعض قد يخشى الاستفادة من هذه الفرصة فإن الأميركيين يجب أن يرحبوا بها لأننا لو فشلنا في تقييم حرية التعبير فإننا ننسى تاريخنا ذاته. أما "المثاليون" فهم على حق عندما يتحسَّرون على غزو العراق، ولكن ليس معنى ذلك أن يتم استغلال هذه العملية الطائشة لإدانة هدف نشر الديمقراطية. كان الهدف من ذلك الغزو هو العثور على أسلحة لم تكن موجودة وقطع صلة لم تكن قائمة بين صدام وبين تنظيم "القاعدة". وكان سبب الفشل الذي تحقق يكمن في القيادة والاستخبارات وليس الالتزام المفرط في حماسته لنشر الديمقراطية.بالنسبة للفلسطينيين، فيجب كي نكون منصفين أن نقول إن الانتخابات لم تكن هي التي أوجدت "حماس". فالناخبون تحولوا لتأييد هذه المنظمة المتشددة لأن الحكومة السابقة لم تنجح في تحقيق المطلوب منها. أما الآن، وبعد أن نجحتْ في الانتخابات، فإن تولي "حماس" للحكم سيكون هو المحك الحقيقي لها والاختبار الذي ربما لم تتعرض لمثله من قبل والذي ستكون مضطرة للقيام بسببه بما لم تقم به من قبل. وسيؤدي هذا إلى خلق ضغط على المنظمة للامتناع عن العنف وتحقيق الاعتدال في سياستها تجاه إسرائيل. إن الديمقراطية لم تكن هي التي أوجدت "حماس"، ولكنها هي التي ستجعلها تتغير، و إلا فشلت الحركة. وأي محصلة من المحصلتين ستؤدي إلى تحسين على الوضع القائم حالياً. إن السجال الدائر بين المثالية والواقعية في السياسة الخارجية يتحرك ذهاباً وإياباً مثل بندول الساعة لأن التطرف في المثالية ليس قابلاً للاستمرار. لكي تنجح أية سياسة خارجية فإنها يجب أن تنطلق من التعامل مع العالم مثلما هو على أن تعمل في الوقت ذاته على تحقيق ما نريد تحقيقه وما نريد أن نكونه. تطبيق هذا الكلام على الواقع السائد في الكوكب قد يكون معقداً، لأن أية سياسة مهما كانت نقية يجب تخفيفها عند تطبيقها في ذلك الواقع. لقد حان الوقت كي نتجاوز إدارة بوش ونتطلع إلى الإدارة التي ستخلفها. إن قادتنا الجدد سواء كانوا من الحزب "الديمقراطي" أو "الجمهوري" سيواجهون تحديات صعبة منها إعادة تعريف ما تمثله أميركا في هذا العالم. ومن المؤكد أن القائمة التي سيعدونها بالأشياء التي يتعين عليهم عملها ستتضمن كسب معركة الأفكار ضد أشخاص من أشباه بن لادن وأبومصعب الزرقاوي، وإيقاف الانتشار النووي، ورسم سياسة معقولة في مجال الطاقة، واسترداد سمعة أميركا كداعم ومراقب للقانون الدولي وحقوق الإنسان. على رأس هذه القائمة يجب أن تكون هناك إعادة تأكيد لالتزام أميركا بالحرية والاحترام لكرامة كل كائن بشري. وبدون هذا الالتزام، فإن أي شيء سنفعله سيكون عديم الجدوى. * عن / " واشنطن بوست"
هل يؤدي نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط إلى تطويق الإرهاب.. أَمْ إشعال جذوته ؟
أخبار متعلقة