يقسم الإنكليز والغربيون عموما الشعر إلى أربعة أنواع، وهنا لا أتحدث عن الفئات الأربع التي يقسم إليها زين الدين الآثاري الموصلي (765 - 828هـ / 1364 - 1425م) الشعراء حيث يقول :[c1]والشعراء في الزمان أربعةفشاعر يجري ولا يجرى معهوشاعر يخوض وسط المعمعة وشاعر ما تشتهي أن تسمعهوشاعر ما تستحي أن تصفعه[/c]ولا شك في أن هذه الأبيات لعبت دورا إيجابيا في لجم عدد من أنصاف وأرباع الشعراء الذين يمتلكون قدرا من الكرامة عن إزعاج المستمعين خوفـا من أن يكونوا من الفئة الرابعة أو حتى الفئة الثالثة.أما ما أقصده فإن الغربيين يقسمون الشعر إلى أربعة أنواع هي :(1) شعر الملاحم مثل إلياذة هوميروس وملحمته الأخرى الأوديسا من الشعر الإغريقي، أو الانياده لفرجيل من الشعر الروماني، أو الكوميديا الإلهية لدانتي الإيطالي في العصور الوسطى، والفردوس المفقود لملتون الإنكليزي ولكن هناك نماذج شرقية تسبق الملاحم الغربية مثل ملحمة جلجامش البابلية والمهابهاترا والرامايانا السنسكريتيتنى من الهند أما في العصر الإسلامي فهناك الشاهنامه لأبي القاسم الفردوسي المتوفى نحو 1025م في فارس التي كتبها بالفارسية المتأثرة بالعربية.(الملحمة قصيدة طويلة تتحدث عن بطل أو أبطال أو أحداث بطولية) أو ميثولوجية أوسطورية تكون محورية لمعتقدات الثقافة التي تنتمي إليها. ونحن لا نجد ملاحم تذكر في الشعر العربي.والنوع الثاني من الشعر الغربي هو الشعر المسرحي ولا شك في أن أشهره هو مسرحيات شكسبير الشعرية المنظومة بالشعر المرسل.ولكن المأساة والملهاة الشعرية كانت متطورة لدى الإغريق وكتب عنها أرسطو وكانت معروفة أيضا ومتطورة عند الرومان.وفي القرن السابع عشر اشتهر في فرنسا راسين بالمأساة وموليير بكتابة الملهاة.واشتهر في القرن الثامن عشر في ألمانيا جوته خصوصا بمسرحية فاوست، كما اشتهر شيللر، وفي روسيا كتب بوشكين المأساة، أما في العصور الحديثة فقد كتب كثير من الشعراء الغربيين المسرحية الشعرية والنثرية ومن أشهرهم تي إس إليوت.ويمكن القول إن المسرحية الشعرية العربية بدأت بشكل حقيقي على يدي أمير الشعراء أحمد شوقي في الثلث الأول من القرن العشرين وتبعه كثيرون منهم عزيز أباظة وفي اليمن كتب عدة شعراء المسرحية الشعرية وأولهم علي أحمد باكثير وعلي محمد لقمان ود . محمد عبده غانم ومحمد الشرفي.والنوع الثالث من الشعر هو الشعر القصصي الذي يكون بشكل قصة ويروي أحداثا مترابطة ويجب تمييزه عن الشعر الملحمي الطويل الذي عادة ما تدخل فيه الآلهة وقد تتصارع فيه ومن نماذج الشعر القصصي الإنكليزي في القرن الثامن عشر المقدمة لوليم وردزورث والملاح العجوز أو العتيق لكولردج وفي القرن التاسع عشر رستم وسهراب لتوماس آرنولد التي استقاها من الشاهنامة.والشعر العربي لا يخلو من الشعر القصصي منذ عصوره الأولى، ولكن عادة بشكل جزئي ضمن القصيدة، فمثلا نرى الشاعر وضاح اليمن المتوفى سنة (90 هـ) يقول في إحدى قصائده :[c1]قـــــالت ألا لا تلجن دارنــــــــــا إن أبانـــــا رجـــل غائــــــــرقــــلت فــــإني طالــــب غــــرة منـــه وسيفي صارم باتــــرقـــالت فــــإن القصر من دوننا قــــلت فــإني فوقه ظاهـــرقـــالت فــــإن البحر من دوننــا قلت فـــإني ســابح ماهــــرقــــــالت فحـولي إخوة سبعـــة قلت غــــــالب قـــاهـــــــــرقــــالت فليث رابض بيننــــــــا قلت فــــإني أسد عاقــــــــر قــــالت فإن اللـــه ما بيننــــــا قــلت فـــربي راحم غافـــــرقـــــالت لقد أعييتنــــا حجـــــة فأت إذا مـــــا هجع السامـــرفاسقط علينا كسقوط النـــدى ليلــــة لانــــــاه ولا زاجــــــر[/c]ويمكننا أن نجد نماذج أخرى من مثل هذه الحوارية في الشعر العربي في مختلف العصور - فعلى سبيل المثال - هناك قصيدة الفرزدق المشهورة التي منها :[c1]قـــالت الكبرى أتعرفن الفتى قالت الوسطى نعم هذا عمرقـــالت الصغرى وقد تيمتهــا قد عرفناه وهل يخفى القمـر[/c]ولصفي الدين الحلي قصيدة قصيرة مكونة من أحد عشر بيتا وهي من أولها إلى آخرها حوارية وقد غناها محمد عبدالوهاب ومنها :[c1]قـالت كحـلت الجفـون بالوسن قلت ارتقابا لطيفك الحســنقــالت تشاغلت عـــن محبتنـا قلت بفرط البكـــاء والحـــزنقـــــالت أذعت الأسرار قلـت لهــا صير ســري هواك كـــــالعلــــنقــالت سررت الأعــداء قلت لهـــا ذلك شيء لـــو شئت لـم يكــــن[/c]ومن الشعراء الكبار في القرن العشرين الماضي الذين استعملوا القصة في شعرهم إيليا أبو ماضي كما في قصائده الدمعة الخرساء، الشاعر والملك الجائر، والتينة الحمقاء، وقصائد كثيرة أخرى.أما النوع الرابع من الشعر فهو ما يسمى الشعر الغنائي LYRICAL ومعظم الشعر العربي هو من هذا النوع، ويدخل فيه قصائد الحب والغزل والمدح والهجاء والفخر والشكوى والشعر السياسي والاجتماعي والديني والوصفي وكل الشعر الذاتي وشعر الأغاني.[c1]القصة في شعر محمد عبده غانم [/c]الدكتور محمد عبده غانم من الشعراء العرب البارزين في كتابة الشعر القصصيوكما يبدو فقد كتب غانم قصة نثرية أو أكثر ونشرها في أعداد فتاة الجزيرة في أوائل الأربعينيات، ولكني لم أطلع عليها. كما نشر خمس مسرحيات شعرية كلها مسرحيات تستند إلى التاريخ اليمني القديم أو الوسيط وهي مسرحيات سيف بن ذي يزن، وفارس بني زبيد، وعلي بن الفضل، والملكة أروى، وعامر بن عبدالوهاب، وهذه المسرحيات نشرت مؤخرا في مجلد واحد من قبل هيئة أبوظبي للثقافة والتراث.ولغانم أيضا أوبريت بعنوان (المرجل) وعدد من المسرحيات الإذاعية ذات الفصل الواحد عن شعراء جاهليين وأمويين.أما إذا نظرنا إلى الشعر القصصي في دواوينه فنجد في ديوانه الأول (على الشاطئ المسحور) عدة قصائد قصصية متميزة أهمها (حديث الجماجم) و(ابنة الراقصة) و(قصة الأمواج).أما في حديث الجماجم فيتخيل الشاعر شاعرا يأوي إلى مقبرة ليهرب من ضجة الورى فيغفو ويحلم أن جمجمتين خرجتا من قبريهما وثار بينهما جدل حاد. فإحدى الجماجم كانت لسيدة والثانية كانت لخادمة تعمل لدى السيدة وتتعالى جمجمة السيدة على جمجمة الخادمة وتتكبر فتقول الخادمة :[c1]نحن هنـــا عظمان لو تعقلين فضــل للعظـــم علـى الآخـــر[/c]فغانم كان يهدف من وراء هذه القصيدة الرمزية أن يؤكد كيف يساوي الموت بين الناس ويعيدهم إلى تراب.وفي قصيدة (ابنة الراقصة) التي نال عليها غانم جائزة العروة الوثقى في الجامعة الأمريكية ببيروت، وكان من المتسابقين شعراء كبار أمثال عبدالمنعم الرفاعي الذي صار فيما بعد رئيسا لوزراء الأردن وسعيد العيسى المسؤول في القسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية ومحمود الحوت، ولكن غانم أخذ الجائزة الأولى. القصيدة تصور شاعرا ذهب إلى ملهى ليلي ليشاهد راقصة ولكنه لاحظ وجود فتاة صغيرة في الملهى هي طفلة غير شرعية للراقصة تضطر الراقصة أن تحضرها معها؛ لأنه لا يوجد من يعتني بها في المنزل وتستحوذ الطفلة على اهتمام الشاعر وينقلب الرقص من ترفيه له إلى تأمل :[c1]رقصت رقصة الفريسة في المخلب قد طار رشدها وهداهاهي تبكي والناس في الضحك من لهو ومن شهوة تلظت لظاهاوكذاك الحياة ليست لبعض الناس إلا دعارة وسفاها..أسفي يا صغيرتي أن تقضي الليل في صالة عظيم أذاهاأنت أحرى بهجعة تحلمين الآن فيها بدمية وحلاهاذلك حال الصغار حين تكون الأم زوجا لمخلص يرعاها[/c]وفي القصيدة المعنونة قصة الأمواج يستعرض الشاعر صفحات من تاريخ اليمن القديم بدءا من عدن وانتهاء بصنعاء :[c1]اللـه أكبر حـول صيرة يلتقــي بحــران محتدمان ملتطمـــانجاشا بما اضطربت به دنياهما مـن قصــــــة موارة الألحـــانخطرت عليها الحادثات مواكبا تمشي الهوينا في ذرا شمسانمن عهد حمير ذي الكلاع وتبع والفرس والأحباش والرومـــان[/c]ثم يستعرض قصة بلقيس وسليمان، وذي نواس وأرياط وسيف بن ذي يزن وتحريره لليمن من الغزو الحبشي بالاستعانة بالفرس ويقول في آخر القصيدة :[c1]يا سيف ذي يزن لقد أبليت في طلب الخلاص لهذه الأوطـــان ونزلت في أكناف كسرى طالبا عون المعظم صاحب الإيـــوانفأجلس على عرش الجدود فإنه عرش القلوب الثابت الأركـــانوانـــزل بصنعاء الجميلة إنهــا مرعــى المها ومسارح الغـزلان[/c]وفي ديوان غانم الثاني (موج وصخر) هناك قصيدتان قصصيتان مهمتان هما (قصة الجبل) و(حمار ورجال) أما في (قصة الجبل) التي يستوحيها الشاعر من مروره في سفينة بالقرب من جبل طارق فيتناول الشاعر قصة فتح الأندلس بشكل متسلسل في شعر جميل. يبدأ القصيدة بتهيئة المسرح، وذلك من خلال وصف الموقع الذي لم يتغير منذ زمن طارق بن زياد.[c1]شطان بينهمــــا العبـاب يمـورفتصده في الضفتين صخــورجثمت وأرست في المحيط أصولهاوفروعها خلل الغمام تغورأصلاد أطلس في الجنوب شوامـخشمسان قاع عندها وثبيـرونفـــاد تحتجن الشمال كأنمـاهي للخضم من الخيال سـوروعلى المضيق اللج طود سـامق جـلد البناء موثـق معمـوريــــروى لناظـــره حديث بطولـــةملأ الزمان جلالها المسطـــور[/c]ثم يصور الشاعر وصول سفن طارق بن زياد وحرق السفن وخطبة طارق :[c1]يا قوم ما يغني الفرار من الــردى بئس الفرار من الهـــلاك مجيــــرأين الفرار ولا سبيــل وراءكـــــــم إلا الخضـــم وموجـــه المـــــــروروالله ضعتم إن تولــــى جمعكـــم وأحاطكـــم بهوانـــــه المحــــذور[/c]ثم يروي المعركة وكأنها فيلم سينمائي ملون فالشاعر أيضا كان يمارس الرسم بالألوان المائية - ويروي قصة انتصار الجيش المسلم ويتحدث في النهاية عن الحضارة العظيمة العربية الإسلامية التي قامت هناك مئات السنين.أما في قصيدة حمار ورجال فيتحدث عن قصة تشبه قصة حرب البسوس، وفي حادثة الثأر في اليمن يقتل عشرة رجال بسبب حمار ويقول الشاعر ساخرا في مرارة في نهاية القصيدة :[c1]وفتــح الحمــــــار عينيــه علـــــى دم الرجــــال دافقـــــا مـــــــدراراوأغمض الحمــار عينيــه وقـــــــد رأى الرجــال تعـــــرف المقـــــدارالـــربمـا شــــادوا لـــــــه منــــــارا وربما صاغــــــوا لـه الأشعـــــــارا[/c]وهذه القصيدة تحظى بإعجاب النقاد أمثال هلال ناجي ود . عبدالعزيز المقالح.وفي الديوان قصائد قصصية أخرى جميلة مثل (مفلوج) التي تتحدث عن قصة مقعد وكيف يسخر منه الناس بدلا من إعانته. وقصيدة (غريبان) التي امتدحها بعض النقاد وفيها حوار بين الشاعر في بلد الغربة وفتاة أيضا غريبة عن تلك البلد.وفي الديوان الثالث هناك أيضا العنصر القصصي في عدة قصائد. ففي قصيدة (بين ديك وثعلب) حوار يرمز إلى حوار بين إحدى فصائل التحرير المتنازعة وبين الاستعمار حيث يحرض الاستعمار الجبهة المسلحة على الفتك بمنافستها لتحطم الجبهتان بعضهما البعض. وفي نهاية القصيدة يقول الديك للثعلب راقصا منطق فرق تسد :[c1]فانفخ لإشعال الخلاف فأنت تنفخ في رماد[/c]وفي قصيدة (قالت لي الشقراء) يجري حوار سياسي بين الشاعر وفتاة غريبة شقراء صهيونية تصر على أن تجر الشاعر إلى حوار عن القضية الفلسطينية وتسرد كل الحجج التي استطاع الصهاينة اختلاقها وإقناع الغرب بها من خلال تكرارها ليل نهار سنة بعد سنة عن أرض الميعاد وغيرها من الأساطير والحجج الواهية.وفي ديوان (في موكب الحياة) العنصر القصصي يظهر في قصائد مثل (سني البعث) التي تتحدث عن خضوع الشاعر لعملية جراحية وقصيدة (هجرة الراعي) التي تتحدث عن هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم.وفي الديوان الخامس (في المركبة) هناك قصيدة (لعبة الثعلب) وهي شبيهة بقصيدة (بين ديك وثعلب) وإن كانت تنتهي بصراع الديكين.وفي الديوانين الأخيرين (الموجة السادسة) و(الأنامل الجافة) لا نرى الشعر القصصي كما رأيناه في الدواوين الأولى، ولكن عنصر القص يظهر هنا وهناك في عدد من القصائد، فالأسلوب القصصي أصيل عند الشاعر في كثير من شعره.
|
ثقافة
القصة في شعر محمد عبده غانم
أخبار متعلقة