هي مصادفة لا ريب، أن ينعقد في الكويت هذا الأسبوع مؤتمر حول فوضى الإفتاء، في الوقت الذي تتناقل فيه وسائل الإعلام جدلاً خارجاً من مصر بشأن إرضاع الكبير والتبرك ببول النبي عليه الصلاة والسلام وعرقه.وهو جدل جاء شاهداً إضافياً على أن موضوع الفتوى انفلت عياره، وغدا بحاجة ملحة إلى ضبط يعيد إلى هذه الصنعة الجليلة اعتبارها، ويوظفها فيما ينفع الناس وييسر عليهم حياتهم في طاعة الله ورضاه.المؤتمر دعا إليه المركز العالمي للوسطية التابع لوزارة الأوقاف الكويتية، وحضره من أنحاء العالم العربي والإسلامي ومن ممثلي الجاليات المسلمة أكثر من مائة عالم وباحث. وانطلق الجميع من مسلَّمتين؛ أولاهما حقيقة الفوضى في مجال الفتوى، التي جاء دورها في بلبلة الناس وصرف انتباههم عن قضاياهم الحياتية والمصيرية. المسلَّمة الثانية أن التطور الهائل في ثورة الاتصال له دوره الأكبر في إحداث تلك الفوضى وتعميمها ليس فقط بسبب أن تعدد وسائل الاتصال الممثلة في الفضائيات والمواقع الالكترونية جذب أعدادا من المتصدرين للإفتاء الذين لم يتمكنوا من الصناعة، ولكن أيضا لأن التنافس بين تلك الفضائيات والمواقع دفع أكثرها إلى محاولة استخدام الإثارة والتشويق لجذب أكبر عدد من المتلقين حتى لو كانت تلك الإثارة على حساب الاحتشام والحقيقة.
لم تكن الفتاوى الشاذة أمراً جديداً، والذين تجرؤوا عليها من بين قليلي العلم والأدعياء وَجَدُوا في كل زمان ومكان. لكن ما استجدَّ في المشهد هو التطور الهائل في وسائل الاتصال، الذي أصبحت أي كلمة أو صورة تنتقل إلى أرجاء الكرة الأرضية وتبلغ ملايين البشر خلال ثوان معدودة وذلك يحدث لأول مرة في التاريخ.بالنسبة للأرقام، فان عدد المحطات الفضائية في العالم تجاوز خمسة آلاف منها 325 محطة عربية، و868 محطة يستقبلها الوطن العربي دون تشفير، وهناك 15 قناة إسلامية تعبر عن مختلف الرؤى والاتجاهات. في الوقت ذاته ففي منطقة الشرق الأوسط أكثر من 260 ألف موقع الكتروني يتعامل مع الشأن الإسلامي. وعلى سبيل المثال، فان موقع «إسلام أون لاين» تدخله يومياً 35 فتوى غير الآراء التي تبث فيه رداً على أسئلة المتابعين في مختلف الشؤون الدينية. أما موقع الشبكة الإسلامية فانه يضيف يومياً 50 فتوى وفي رصيده تتراكم إلى أكثر من 644 ألف فتوى.هذه المعلومات تكشف عن حجم التحدي الذي تواجهه صنعة الإفتاء، ذلك أن ثمة إقبالا هائلاً من جانب المسلمين على محاولة الفهم والاستفتاء وتحري الحلال والحرام فيما يعيشونه ويمارسونه، إلى جانب أن هناك كثيرين من غير المسلمين أصبحوا أكثر فضولا في التعرف إلى الإسلام، خصوصاً بعد أحداث 11 سبتمبر. وهذا السيل المنهمر من الأسئلة استدعى أعدادا كبيرة من دارسي العلوم الشرعية الذين تصدوا للإفتاء وبعضهم لم يكن متمكناً في أصول الصنعة، الأمر الذي كان له دوره في إثارة الفوضى وإحداث البلبلة التي أزعجت أهل الاختصاص. فسارعوا الى تلبية دعوة مركز الوسطية، للتداول في شأن المشكلة ومحاولة البحت عن مخرج من أزمتها.استأثر الجانب المتعلق بأصول صناعة الفتوى بالاهتمام الأكبر من جانب الباحثين الذين استشعروا خطراً في عدم احترام تلك الأصول التي تتعلق بالشروط الواجب توافرها في المفتي وبضوابط الإفتاء وآلياته، ودور المجامع الفقهية في ذلك. وخطر الفتاوى الشاذة، وتغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والحال، والفتاوى المتعلقة بأحوال الناس وتلك التي تعنى بالعمران في الأمة، ثم ظاهرة الإفتاء على الهواء ومخاطرها.. الخ.وكان العلامة الموريتاني الشيخ عبد الله بن بيّه هو الذي استخدم في أولى جلسات المؤتمر مصطلح «صناعة الفتوى»، قائلا في هذا الصدد، إن الصناعة عبارة عن تركيب وعمل يحتاج إلى دراسة وتفكّر. ومن ثم فهي ليست فعلاً ساذجاً ولا شكلاً بسيطاً، وإنما هو نوع من القضايا المركبة التي تقترن بمقدمات كبرى وصغرى متعلقة بالواقعة والدليل للوصول إلى نتيجة هي الفتوى. في الوقت ذاته، لم تخل ورقته من التنبيه إلى خطورة الفتاوى المتعجلة التي تبث على الهواء مباشرة في بعض الفضائيات والمواقع، والتذكير بالحذر الشديد الذي ظل يلتزم به الفقهاء في هذه المسألة، من الصحابة الذين كانوا يمتنعون عن الفتوى ويحيلها كل منهم إلى الآخر، والتذكير بالإمام مالك الذي استفتيَّ في أربعين مسألة، وقال في ست وثلاثين منها لا أدري.في ورقة قدمتها إلى المؤتمر حول قدرة الاتصالات وتأثيرها في واقع الإفتاء، قلت إن الفوضى الحاصلة على صعيد الإفتاء ليست نتيجة فقط لتعدد القنوات والمواقع الدينية، وإنما أسهمت في ذلك عوامل أخرى؛ منها غياب مرجعية متفق عليها سواء على مستوى العالم الإسلامي او حتى على المستوى القطري، وفيها أيضا أن كثيرين لم يعودوا يثقون بفتاوى المؤسسات الدينية لاعتقادهم أن تلك المؤسسات خاضعة للنفوذ السياسي. وهو ما دفع البعض إلى البحث عن مصدر للفتاوى خارج تلك المؤسسات، الأمر الذي فتح الباب للفوضى التي تمت بصددها، إذ إن السائلين أعرضوا عن جهات الفتوى الرسمية بسبب شبهة التأثر بمواقف الأنظمة فوقعوا في دائرة القنوات والمواقع الخاصة التي هي خارج السيطرة، وبعضها معنيٌ بالإثارة ودغدغة مشاعر الجماهير، مما أوقعها في محظورات كثيرة.قلت أيضا إن فوضى الإفتاء مشكلة تحتاج إلى علاج حقاً، لكننا ينبغي ألا نرى في المشهد غير سلبياته وحدها لأن وسائل الاتصال الحديثة أدت دوراً مهماً في التبليغ. كما إنها وفرت فرصة ممتازة لإعادة الوشائج الفكرية والثقافية بين أطراف الأمة الإسلامية، وبين المسلمين في المهاجر والشتات وبين إخوانهم في أوطانهم. وفي الوقت ذاته، فإنها حين فتحت الأبواب للجميع، أبرزت التعددية في الحالة الإسلامية وأتاحت لمختلف التيارات الفكرية أن تعبر عن نفسها متجاوزة بذلك قيود المصادرة وأسوار الحصار. وفي كل الأحوال، فان هذا الإعلان عن الأفكار يظل أفضل بكثير من كتمانها أو تداولها في الظلام. ثم إن مثل ذلك الإعلان يتيح فرصة مناقشة الآراء والرد عليها، كما انه يوفر للباحثين مادة مباشرة لدراسة مختلف تجليات الظاهرة الإسلامية. من هذه الزاوية تبدو وسائل الإعلام المختلفة عبارة عن تقنيات وقنوات للتوصيل يمكن استخدامها لتحقيق أنبل الأهداف، كما يمكن توظيفها لصالح أهداف مناقضة تماماً. والأمر يتوقف على كفاءة وطبيعة الجهة التي تتعامل مع تلك الوسائل. وهو ما يدعونا إلى الاعتراف بأن الاستخدام النبيل لوسائل الاتصال الحديثة لم يستثمر إمكانات تلك الوسائل على النحو المرجو، لأن التطور في تلك الوسائل أبعد وأسرع بكثير من التطور في الخطاب الإسلامي.خلال المناقشات التي دارت حول علاج مشكلة فوضى الإفتاء بحثت مسألة حصر الإفتاء في جهات رسمية بذاتها، أو في حملة مؤهلات بذاتها. كما نوقشت فكرة إنشاء جهاز رقابي على القنوات الفضائية. ومالت المناقشات إلى استبعاد هذه الأفكار لأن حصر الإفتاء في جهات بذاتها يشكك في خضوع تلك الجهات للأنظمة التي أنشأتها، ومن ثم يضعف الثقة بها، ورغم أن المؤهلات العلمية مهمة إلا أن ليس كل حامل شهادة جامعية في أصول الفقه يصبح مؤهلاً للإفتاء، حيث قد يكون مستوعباً للنصوص والقواعد، وغير متمكن من معرفة الواقع المحيط به أو مدرك لظروف زمانه. وحتى فكرة إنشاء جهاز رقابي لا تحل الإشكال، لأن هناك قنوات ومواقع خارج السيطرة ولا تستطيع الأجهزة الرقابية أن تبسط سلطاتها عليها بحيث تلزمها بالشروط الواجب توافرها في المفتي.في هذا الصدد توافق المتحدثون على أن مشكلة الفتوى يتعذر القضاء عليها تماماً. ومع ذلك فمن الممكن تخفيف أثرها ومعالجة بعض أوجه القصور التي أسهمت في صنعها. وكنت قد دعوت في ورقتي إلى إنشاء مجامع فقهية في كل بلد، تقوم بترشيد الخطاب الديني وتوعية الدعاة و(المفتين) بأهمية إدراك ظروف الزمان، فضلاً عن استيفاء الشروط المعتبرة في الإفتاء. إلى جانب ذلك، تقوم تلك المجامع بدور الحارس لتقاليد الإفتاء وشروطه، الذي ينبه أجهزة الإعلام إلى ضرورة الاستعانة في برامج الفتوى بالمتخصصين، ويكون لتلك المجامع الحق في محاسبة الذين يخلون بالقواعد المقررة في هذا الصدد.دعوت أيضا الى إعادة الاعتبار لهيبة المؤسسة الدينية، الذي يعد استقلال تلك المؤسسة من شروطه الجوهرية، وهو إحدى خانات إغلاق الباب أمام تدخل السياسة في الدنيا. ومن ثم تأثر المؤسسات الدينية بالأهواء والحسابات السياسية العارضة. وهذا الاستقلال كفيل بأن يعيد ثقة المسلمين بجهات الإفتاء الرسمية على نحو يصرفهم عن اللجوء إلى الهواة في عالم الإفتاء، وخطوة من هذا القبيل لا تحقق إلا في ظل أجواء الحرية والديمقراطية التي تكفل استقلال مؤسسات المجتمع وتعافيها، بما في ذلك المؤسسة الدينية، الأمر الذي يمكنها من أن تباشر مسؤوليتها بما يرضي الله وحده، وليس السلطات أيضا.في الختام، دعت توصيات المؤتمر غالى إصدار ميثاق للإفتاء تعتمده المجامع الفقهية وتلزم جهات الإفتاء ببنوده، وإصدار موسوعة شاملة للفتاوى المعاصرة لتكون مرجعاً للباحثين والدعاة. كما دعت إلى وضع منهج لتدريس الافتراء في مختلف الجامعات الإسلامية، والى إنتاج برامج متخصصة للإفتاء الجماعي فيما يخص قضايا الأمة الكبرى. وتبنت التوصيات فكرة إنشاء معهد للفقه المعاصر، يخرّج أجيالاً من الدارسين الذين قد يسهمون في الارتفاع بمستوى الدعوة والفتوى.الكلام طيب لا ريب، لكننا لا نستطيع أن نعبر عن حفاوتنا به إلا حين نرى أن له نصيبا من التنفيذ، وانه أفلت من الثلاجة الشهيرة التي تحفظ فيها توصيات المؤتمرات العربية والإسلامية.*نقلاً عن/ صحيفة ( الشرق الأوسط)
