اعرف أن غزة تلتهب، والعراق يحترق، والإرهاب يعربد في طرقات المدن، و"زيدان" المهاجر الجزائري قاد فرنسا للمرة الثانية إلى نهائي كأس العالم، ثم طرد، كل هذه أحداث ساعة، وشغل شاغل للناس، بيد أني ابتعدت عن هذه المحطات الصاخبة، واستوقفتني كلمات شفيفة عبرت بها كاتبة سعودية، ربما لا يعرفها الكثيرون خارج بلدها، عن أزمة من أزمات العقل والنفس الجماعية في العالم العربي والاسلامي، أزمة التوفيق بين روح مؤمنة وعقل محصن من الاقتيات على حشاش الوهم.كلمات كتبتها هذه السيدة في صحيفة ("المدينة" 6 يوليو الحالي)، تعبر بها عن تجربة وجودية مبهرة، تجربة من النادر أن يكتب أحد عنها بمثل هذه الطريقة، وهو بطلها، بل الغالب أننا نجد من يخوض في مياه هذه التجربة يؤثر الصمت والانزواء والمعاناة وحيدا.ما الأمر؟ سامية العمودي، أو الدكتورة سامية العمودي، سيدة سعودية، وهي استشارية نساء وولادة، ووكيلة كلية الطب والعلوم الطبية بجامعة الملك عبد العزيز بجدة سابقا، كانت تكتب مقالات تطالب فيها برفع مستوى الوعي الصحي لدى النساء، اكتشفت، ويا لمفارقة القدر، أنها مصابة بسرطان الثدي! ماذا فعلت، تلقت الأمر بثبات، وحاولت تحويل حالتها إلى فرصة أخرى للتوعية والكتابة، وظلت محتفظة برصانتها العلمية، ولم تفقد، مع صدمة المرض، اتزانها المنهجي، كما هو حال آخرين، وكتبت مقالا مؤثرا بعنوان: "هل ما أصابني عين حاسد؟"، تقول فيه: "كانت إصابتي بمرض السرطان مفاجأة لي ولكل من حولي، حيث أنني اكتشفت الورم فجأة وقد وصل حجمه إلى أربعة سنتيمترات وقد انتشر إلى الغدد الليمفاوية، وهذه السرعة في حدوث الأمر كانت أزمة لي، ولأنني أمر بهذه الأزمة أحسست بالحاجة إلى أن أخبر إنسانة عزيزة على قلبي هي أستاذتنا وأختنا الكبيرة الدكتورة فاطمة نصيف، فكتبت إليها رسالة عبر الفاكس أقول فيها، أمر بأزمة صحية كبيرة احتاج فيها إلى الدعاء منك وهي أزمة أراها رسالة حب من الله، فاتصلت بي تقول "بقدر ما أوجعني خطابك بقدر ما أعجبني قولك إنها رسالة حب من الله، فهذه الروح تحتاجينها لتقوية دفاعك ومناعتك حتى تحاربي المرض"، ثم أردفت "هذه، يا ابنتي، عين أصابتك وعليك بالرقية الشرعية".طبعا لا ندري على أي أساس بنت صديقة الدكتورة سامية، اعني الأستاذة فاطمة نصيف جزمها بأن ما أصاب صديقتها هو "عين حاسد"، ولا ندري كيف يمكن التوصل إلى ذلك بشكل دقيق وحاسم، وكيف نفرق بين العين والمس والهم، وأشياء من هذه الآفات تتشابه في تأثيرها وتختلف في تسميتها، ويجمع بينها أنها كلها خارج إطار الواقع المشخص.كن، بعيدا عن هذه الأسئلة، نرى كيف أن الدكتورة سامية، هي مسلمة مؤمنة بشكل عفوي، وتجلى ذلك في مقالها من خلال التأكيد على الرقية بالقرآن والأدعية النبوية، لكنها، ورغم إيمانها العميق هذا ، لا تنسى التحذير من تجار الأزمات والمتربحين من وراء آلام الناس، وتشير إلى "التخبط" الذي يقع فيه المريض المسكين المتعلق بأوهام النجاة.وتسرد الدكتورة سامية الكثير من نصائح المتبرعين لها من دون امتلاكهم المعرفة والعلم، وتقول: "تعرضت في مرضي للكثير. ورأيت قناعات شتى، منها ما نصحني به البعض من عدم استعمال العلاج الكيماوي والاكتفاء بشرب ماء زمزم.. ونحن شعب لنا قناعاتنا الإيمانية بفضل ماء زمزم، بلا شك أبدا، وماء زمزم لا يشفي وحده، وإلا لكنا قد قمنا بتصديره إلى العالم كله علاجا شافيا، لكن ماء زمزم مع القناعة الايمانية بأن الله هو الشافي وانه أعطانا الوسائل المجتمعة في بركة ماء زمزم وفي وسائل العلاج الطبية وتلمس الوسائل، هذه كلها هي العلاج الحقيقي.. ولن انسى قصة الكرمب الذي اقتنع كثيرون به بعد عرضه في احدى القنوات الفضائية، وكيف ان وضع ورقة الكرمب على الثدي لساعات كفيل بإزالة السرطان (...) وهكذا تكثر الاجتهادات عن الطب البديل والتكميلي والغذاء والأعشاب وكل ما يمكن تصوره.. وكثير من هؤلاء يتلمسون المساعدة بحسن نية، ولأن المريض ضعيف فهو يتلمس أي سبيل".ثم تختم سامية مقالتها بهذه الفقرة المتزنة المؤثرة في نفس الوقت:"يبقى العلاج الطبي هو الأساس وتركه عن جهل وقلة علم.. هو الهلاك الحقيقي، ولذا لا بد من التأكيد على هذه الأمور.. والله معنا في الأول وفي الآخر".معاناة، وقصة الدكتورة سامية العمودي، تلخص كثيرا من المشكلات المشابهة، ونحن، كما أشارت العمودي، نفهم غلبة الجانب العاطفي على المريض، خصوصا إذا كان مصابا بمرض عضال، وأنه من اجل ذلك يتعلق بريش الأوهام، ولكن ما لا نقبله هو سكوت الجهات الصحية والعلمية الإشرافية على متاجرة البعض بأوجاع الناس، او لامبالاتها، كما حصل مع مدعي الطب الشعبي، الذي اشتهر أمره منذ سنتين تقريبا في الإمارات، واخذ يتصدر أغلفة المجلات، زاعما انه عالج الممثلة الفلانية والنجم الفلاني من أمراض مستعصية، بل ووصل به الحال أن يقول وبكل جرأة، إنه يقدر على علاج السرطان والايدز، ولكن الدول العربية لا تقدر موهبته، مزورا عددا من الشهادات من الخارج، ولا أريد ان اسمي اسمه هنا، ولكن من يقترب لعالم الطب المزعوم هذا يعرف جيدا الشخص الذي نتحدث عنه هنا، والذي طور من مهاراته الخداعية الراسبوتينية، الى درجة أن يجعل طبيبة متخصصة تشهد له، وعلى الهواء في احدى الفضائيات، انه عالج مريضة من السرطان، وهذا هو الخداع للذات بأوضح صوره، والتأثير على الآخرين من خلال السيطرة على مشاعرهم، وتحويلهم إلى أدوات تنفعل بإرادة أخرى، كما كان الحال مع الراهب الروسي الشهير راسبوتين.ومع ان صاحبنا هذا حذرت منه وزارة الصحة السعودية، وبينت انه شخص يدعي العلاج بالأعشاب لكنه يكذب، حتى في طب الأعشاب، الذي لا ننفي انه تخصص يدرس بشكل منهجي تحت عنوان الطب التكميلي، مثل الطب الصيني، وغيره، ولكن صاحبنا "النصاب"، لا طبا اصليا يعرف، ولا تكميليا، كل ما هنالك أنه وجد مركبا من الوهم فركب، ومثله كثير، ولو فتح باب النصابين من مدعي العلاج بالأعشاب والترهات الأخرى، لتكشف لنا عالم آخر من عوالم الخرافة والوهم، رواده ليس من العامة أو "العجائز"، بل حتى من كبار القوم ونخبة المجتمع!هل يعني هذا أننا نلغي الجانب النفسي في التشافي؟ طبعا لا، وهذه مسألة معقدة يعرفها أهل الاختصاص. وحيوية القوة النفسية لدى المريض عنصر مهم من عناصر المعادلة العلاجية، لكن من هذا المدخل بالذات يلج النصابون، أو حتى حسنو النية من المتطببين، وما زلت اذكر كيف حضرت ذات مرة، شخصا يدعي انه يخرج الجان والعفاريت من الممسوسين، واخذ ينهال بالضرب بعصا غليظة على شاب مسكين مصاب بمرض نفسي معين، ولم يتحمل أخو المريض شراسة الضرب على القدمين والظهر، والشاب المسكين يئن، فلما لاحظ المطبب تأثر الأخ بألم أخيه، قال له: لا عليك فالضرب يقع على الجني وليس على أخيك، واستشهد بفقيه قديم ليدعم صحة قوله. لكن المسكين اخذ يحبو بعد أن تورمت قدماه، ثم أخذته نوبات قيء فقال احد مريدي هذا المعالج: الحمد لله، لقد بدأ يخرج من جوفه السحر!نتحدث عن هذه الأمور، لأنها لم تعد مقتصرة على بعض الفئات البسيطة غير المثقفة، بل أصبح الأمر ظاهرة، تستوجب محاربتها حتى نحفظ ما بقي من عقلنا العلمي.وشيء آخر، هذا الأمر يؤشر إلى هيمنة "اللامعقول" على غالب المجال العربي والإسلامي، من السياسة، التي تتحرك بحرق البخور وضرب الودع، الى الرياضة الى كل شيء... للدرجة التي يحاول فيها البعض، وعبر آليات حديثة، عقلنة اللامعقول من خلال إنشاء معاهد وفتح معارض في مستشفيات متخصصة بهذا النوع من "الطب"، بين قوسين، وإكسابه صبغة علمية.رسالة الدكتورة سامية العمودي، التي أسمتها في خاتمة مقالتها بـ"رسالة حب"، طلبت فيها من بقية النساء أن يبكرن بالفحص عن سرطان الثدي، هي رسالة بالغة الدلالة لتوجيه الجهد نحو وجهته الصحيحة والمثمرة، هي رسالة عقلانية وصادقة، رسالة نصرة للمنهج العلمي والعقلي، ومحاصرة لضباب الوهم والخرافة، رسالة تقول: يمكن أن تقوي نفسك أو نفس مريضك بالإيمان الصافي من دون حاجة لمن يتطفل على ميدان الطب أو يزاحمه بترهات وأحاديث خرافة، متدثرا بعباءة الدين، ومتسلحا بضعف المرضى.إنقاذ العقل يساوي إنقاذ الجسد.. هذه فحوى رسالة الحب التي كتبتها سامية... فهل من سامع؟[c1]* نقلاً عن صحيفة (الشرق الأوسط )اللندنية[/c]
رسالة حب من سامية!
أخبار متعلقة