في المكان الذي قضى فيه أكثر من عشرين عامًا، بين هدير الآلات ورائحة الحبر، حيث اعتاد أن يبدأ نهاره وينهيه، اختار الموت أن يأتيه بلا موعد. لم يُمهله ليودّع أحدا، ولم يمنح زملاءه فرصة لوداعه، ولا لأسرته زمنًا للتأهّب.
موت الفجأة لا يطرق الأبواب، ولا يستأذن أحدًا، بل يأتي كما تأتي اللحظات الكبيرة في حياتنا: صامتًا، حاسمًا، ومربكًا. هو موت يخلّف فراغًا أكبر من الكلمات، لأن الغياب فيه يحدث قبل أن نستوعبه.
نحن نحبّ المقدمات، نطمئن للمرض الطويل، وللإشارات التي تسبق الرحيل، لأنها تمنحنا وهم الاستعداد. لكن يأتي الموت المفاجئ كصفعة توقظنا من هذا الوهم، ويضعنا عراة أمام الحقيقة التي تقول: إن الحياة لا تمنحنا ضمانات، ولا الموت يعطينا مواعيد مسبقة. ربما كان هذا النوع من الرحيل رحيمًا بمن يرحل، لكنه قاسٍ على من بقوا. قاسٍ لأنه لا يتيح كلمة أخيرة، ولا نظرة وداع، ولا فرصة للتعبير عن أصدق مشاعرنا أمام من يحتضر.
فليكن موت الفجأة عبرة لنا لكي نستيقظ من غفلة الحياة، ونتذكر بأن أكثر ما نؤجله في حياتنا هو ما يستحق أن يُعاش الآن: المحبة، الاهتمام، التسامح، الصدق، الابتعاد عن العداوات والأحقاد والعودة إلى أنفسنا. ربما لا نستطيع اختيار طريقة موتنا، لكننا - حتمًا - نستطيع اختيار طريقة عيشنا. أن نعيش بوعي، بخفّة، وبقلب أقل امتلاءً بمشاعر الكره والغيظ والحقد، وأكثر امتلاءً بالحب والإيمان. الموت المفاجئ لا يطلب منا أن نخاف، بل أن ننتبه. أن نحيا كما لو أن كل استراحة قد تكون الأخيرة.
رحم الله المهندس محمد باغريب، فقيد مؤسسة ١٤ أكتوبر، وأسكنه فسيح جناته، وألهم أسرته وأحباءه وزملاءه الصبر والسلوان.. إنا لله وإنا إليه راجعون.
