القاعدة التي يعرفها (العلماء) الحقيقيون (أن الرجال يعرفون بالحق، ولا يعرف الحق بالرجال)؛ لذلك فإن العالم الحقيقي إذا ثبت لديه أمر ما، (لا يستحي) من الرجوع عن قول سابق له كان يخالفُ ما ثبت لديه لاحقاً. قال القرطبي في تفسيره إن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: (ألا لا تغالوا في صدقات النساء؛ فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ما أصدق قط امرأة من نسائه ولا بناته فوق اثنتي عشرة أوقية؛ فقامت إليه امرأة فقالت: يا عمر، يعطينا الله وتحرمنا! أليس الله - سبحانه وتعالى - يقول: (... وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا)؟ فقال عمر:(أصابت امرأة وأخطأ عمر)، وفي رواية (فأطرق عمر، ثم قال: كل الناس أفقه منك يا عمر!) انتهى. كان بإمكانه - رضي الله عنه - أن يقول: اصمتي، وتأدبي بين يدي خليفة خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، غير أن (ثقة) ابن الخطاب بنفسه، ولأن (الذات) في معاييره لا تهمّه بقدر ما تهمّه (الخلافة)، وأنه فيها (قدوة)، فلم يتردد أن يُعلن على رؤوس الأشهاد أنه (بشر)، وأنه ليس (معصوماً) من الخطأ، وأنه (اجتهد) فأخطأ، وأرشدته امرأة إلى الصواب (فامتثل) للحق بكل ما تحمله (الموضوعية) من معنى! تقرأ هذه القصة، ثم تلتفت إلى هذه (القدسية) التي أسبغها بعض طلاب العلم، حتى (الصغار) منهم، على أنفسهم، أو أسبغها بعض طلبتهم عليهم، فتتساءل: هل أولئك متبعون كما يدّعون حقيقة؟ فعندما يعتبر أحدهم أن (نقاش) العلماء، الأحياء منهم أو الأموات، وتفنيد آرائهم، (خطوط حمراء)، ليس لأحد أن يتجاوزها، هل تذكر - عندما قال بهذا القول - أن امرأة ناقشت عمر، وخطأته واعترضت عليه؛ فعاد عن اجتهاده، واعترف بالخطأ على رؤوس الأشهاد؟! هكذا هو الإسلام قبل أن يجرّه هؤلاء نحو (الرهبانية المؤسساتية)، وهكذا هو الإسلام قبل أن يقوم (أحدهم) ويعلن أن في الإسلام، كما في المسيحية، (رجال دين)، وأن المطلوب أن يذعن الجميع (لرجل الدين) واجتهاداته، وليس للدين!.. هنا تبرز (الأنا) بعُقدها، ومصالحها، وطموحاتها، وأطماعها، ورؤيتها للواقع؛ فتختلط الذات بالموضوع، فيصبح (العالم) هو من يتلمس مصالحه وقوته ونفوذه، ويطوّع النصوص لخدمة (عُقده) وقضاياه الخاصة، بوعي أحياناً، ودون وعيّ في أحايين أخرى. وفي المقابل تصبح شخصية المسلم (التابع) أو (التلميذ) أو (المقلد) التي حرص الإسلام على استقلاليتها، وكرامتها، وشموخها، مجرد شخصية (مسلوبة) الإرادة والقرار والاستقلالية، كأية (شاة) في قطيع، وراء (الشيخ) أينما حل وارتحل!.. وكل (الحركات) والأحزاب الإسلامية السياسية المعاصرة - بالمناسبة - تقوم على فكرة إلغاء الاستقلالية، وإذابة (الأنا) في الجماعة، لغايات حركية نفعية سياسية محضة. وثمة ظاهرة أخرى تصبّ فيما أنا بصدد الحديث عنه من حيث الدلالة، وهي عنايتهم، و(استماتة) بعض من يُسمون بالعلماء أو طلبة العلم في (الألقاب)، سواء التقليدية منها أو الأكاديمية؛ حتى أصبح أحدهم يسمى (فضيلة الشيخ) لمجرد أنه مشرف على حلقات لتحفيظ القرآن فحسب! وآخر يأتي في آرائه وكتاباته بالعجب العجاب، التي تدل على (جهل) مطبق بما يتحدث فيه من قضايا العصر؛ لتفاجأ بأن هذا الكائن الجاهل قد حصل (مؤخراً) على درجة (الدكتوراه) في الفقه، وأصبح - حسب رأيه - (عالماً) يجب أن يساق الناس إلى اجتهاداته ورؤاه و(نصائحه) سوق النعاج، سواء الاقتصادية منها أو السياسية أو الاجتماعية. من هنا نستطيع أن نفهم لماذا يصرّ بعض الصحويين على درجة الدكتوراه، فحرصهم عليها، ليس طمعاً في مزيد من العلم، أو الدرجة الأكاديمية، أو تحرياً (للمنهجية) في البحوث، وإنما ليتباهى - فقط - بلقب (الدكتور)، ويصبح له بريق لدى العامة، ومكانة اجتماعية؛ ليمرر (طموحاته) بيسر وسهولة، في حين أن صحابة رسول الله - رضوان الله عليهم -، وتابعيهم كذلك، كانوا يُسمون بأسمائهم دونما (ألقاب) أو تفخيم أو تبجيل؛ فلم يذكر لنا التاريخ أن أبا هريرة الصحابي المشهور، سمّاه أحد (فضيلة الشيخ أبو هريرة) مثلاً، ولم ينقل لنا التاريخ أن حبر هذه الأمة عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - قد نودي ب(فضيلة الشيخ العالم العلامة عبد الله بن عباس) أو لقبه أحد تلاميذه بهذا اللقب! بل كانوا يسمون بأسمائهم (حافة)، أو بكناهم عند التكريم والحفاوة، ولم يقل أحد أن في ذلك (تنقصاً) لهم.وقد حاولت أن أبحث عن قضية ما، كان لأحد مشايخنا فيها رأي معين فعاد عنه، وأفتى بخلافه، كما فعل عمر، فلم أجد!. وأنا متأكد أن ثمة موقفاً كهذا لم يصل إليّ، ولكن الذي أنا - أيضاً - متأكد منه، أن مثل هذه المواقف - إن وجدت - فهي بمثابة الشذوذ الذي يؤكد القاعدة كما يقول المنطقيون ولا يلغيها. أما السبب - فيما أراه - فهو حرص طالب العلم المعاصر، على (ذاتيته) بطريقة مفرطة، و(شراهته) في تحقيق طموحاته، وتكريس قيمته الاجتماعية؛ لأن الإصرار على الرأي، و(التشبث) بالموقف، هما من سمات (القوة) التي تعطي البريق الاجتماعي (للذات) في الثقافة العربية؛ من هنا تبدأ المشكلة، وتنطلق المكابرة والإصرار، ولكن.. لله في خلقه شؤون. * نقلا عن / صحيفة ( الجزيرة ) السعودية
أخطأ عُمر!
أخبار متعلقة