عدن التاريخية التي أطلق عليها الإنجليز (كريتر)، مدينة مكتظة بالسكان، وبالمساجد .. ورحم الله مساجد زمان التي كانت سكناً للروح، وسكينة للنفس، ومعراجاً لمناجاة الرحمن.. وليست مصدراً للصخب والضجيج كما هو حالها اليوم .. بسبب مكبرات الصوت (الميكرفون) التي تستخدم أسوأ استخدام، فتحولت من أداة نافعة إلى أداة ضارة.. مما أساء إلى رسالة المسجد، وألحق الضرر بحياة الناس! الصلاة اليوم بسبب ارتفاع الصوت الجنوني تخرج من روحها التعبدية داخل المسجد إلى قارعة الطريق، فتدخل الأسواق حيث تختلط كلمات الله مع أصوات الباعة المتجولين، وبذاءات السوقة والمتسكعين .. وتتردد تكبيرة الإحرام والركوع والسجود مع قهقات وصياح المباشرين ورواد المطاعم والمقاهي .. حتى المستورين داخل منازلهم المنشغلين بشؤونهم الخاصة، والخاصة جداً في المطبخ وغرف النوم، قد التبس عليهم الحال.. في البيت هم أم في مسجد؟! قاتل الله تلك الميكرفونات، وأولئك الذين يعبثون بمفهوم العبادة الصحيحة.. سواء بقصد أو بدون قصد .. ويا حسرتاه على مساجد السلف الصالح .. يوم كانت المساجد تشيع السكون والطمأنينة في الأجواء، وفي القلوب المؤمنة، وليس الفزع والرهبة في القلوب الآمنة في الليل والنهار.. أحاديث وخطب كلها صراخ .. حتى لتحسبن أن الخطيب يعاني من ألم قرحة في معدته.. وفي جوف الليل صوت أجش مخيف يسبح ويذكر ويؤذن بالميكرفون الرهيب، فيهب الطفل مذعوراً في الظلام يتشبث بثياب أمه! الشرك والإضرار بالناس .. أمران لا يغفرهما الله .. فيكف يكون مصدر هذا الضرر من المسجد .. بيت الرحمن .. هذا اعتداء على حقوق الإنسان .. حقوق الجار .. الذي أوصانا به نبينا عليه الصلاة والسلام حتى كاد يورثه.. هذا عدوان تعاقب عليه قوانين السماء قبل أن تعاقب عليه قوانين الأرض .. فما بال القوم لا يعقلون.. أم على قلوب أقفالها .. والنفوس تتحكم فيها أهواؤها؟! إذن من لا يزعه القرآن فلابد أن يزعه السلطان .. ولكن للأسف يبدو أن لا سلطان لمكتب الأوقاف .. وتعليماته ليست سوى حبر على ورق .. ولأهالي عدن رب يحميهم! ولكن أهالي عدن تجرأوا أخيراً، وجأروا بالشكوى إلى السلطات المحلية ومكتب الأخ المحافظ من الضرر الذي يصيبهم من أثر الضجيج الذي تصدره ميكرفونات المساجد المحيطة بمنازلهم من كل جانب .. أقول تجرؤوا لأن القائمين على شؤون المساجد ما كانوا ليسمحوا لأحد أن يتجرأ فيشكو .. ومن يشأ حظه العاثر ويفعلها فهو إما كافر قاطع صلاة، أو آبق أو فاجر .. أو لعله هو الشيطان بعينه قد جاءهم متنكراً في هيئة بني آدم .. هذا إذا لم يكتشفوا فجأة إنه إسرائيلي أو عميل أمريكي! كثير من القائمين على شؤون المساجد يتصورون أنفسهم أنهم يتحدثون باسم الله .. يشجعهم في ذلك وقوف العوام إلى جانبهم .. لذا تجدهم يتعاملون مع من يقدم لهم النصح بتشنج ونفاد صبر.. وفي ظنهم أنهم كلما ازدادوا غلظة وفضاضة مع مخالفيهم في الرأي؛ ازدادوا تقرباً إلى الله! هذا السلوك يخفي وراءه عجزاً وقصوراً خطيراً في فهم روح الدين الإسلامي.. بل غروراً لدى البعض وحب الظهور.. وهذا ما يفسر شغف بعض الدعاة وأئمة المساجد بالميكرفون.. الأمر الذي جعل الميكرفون بالنسبة لهم متعة .. وإن كانت على حساب صحة وعذاب الناس! والأدهى من ذلك أن بعض أئمة المساجد يخيل إليهم أنهم في سباق وتنافس مع المساجد المجاورة .. وكثيراً ما يختلط على المصلين قراءة إمام مسجدهم الذي يصلون فيه مع صوت إمام المسجد المجاور.. فترتبك صلاتهم! ومن عجب هذا الزمان أن يدخل المرء المسجد يلتمس فيه الهواء والسكينة والصلاة الخاشعة المطمئنة، فإذا بميكرفونات المسجد الداخلية تؤزه أزاً وهو يصلي .. فصوت الإمام يصم الآذان .. حتى أنني شخصياً هممت ذات مرة بالخروج من الصلاة بسبب حدة صوت الميكرفون! ومع ذلك هناك ما يثير العجب أكثر .. هو سكوت المصلين على هذا الحال .. فلا أحد يشكو من ارتفاع صوت الميكرفون داخل المسجد.. كأن لطول عهدهم مع ضجيج الميكرفونات قد أصاب آذانهم وقر.. أو أن الحال بالنسبة لهم ليس سوى قضاء وقدر.. لا يملكون رده .. ولا حتى سؤال اللطف فيه! إن من نكد الدنيا علينا أن ننشغل اليوم بمثل هذه الأمور السخيفة، ونحن في معركة مصير عالمية نكون فيها أو لا نكون .. وقد صار حالنا على ما هو عليه من الضعف والهوان .. وتكالبت علينا الأمم كما تتكالب الأكلة على قصعتها .. فمتى نفهم كتاب الله وسنة رسول الله بالعقل، وليس بالنقل أو الهوى والتقليد الأعمى؟! «يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله الله واتقوا إن الله سميع عليم يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون .. إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم .. إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون» الحجرات “1 ـ 2 ـ 3ـ4”. إنه الأدب الرفيع الذي أدب الله به المؤمنين .. أين وكيف .. في بيت رسول الله .. عندما يكونون بين يدي رسول الله .. فلا يجهروا له بالقول ولا رفع الصوت.. فما بالكم يا سادة عندما تكونون بين يدي الله سبحانه وتعالى .. في بيت الله.. في المسجد.. ما بالكم وقد تجاوزتم حد رفع أصواتكم وأنتم تخاطبون الله جل جلاله إلى حد استخدامكم الميكرفون الرهيب .. حبطت أعمالكم وأنتم لا تشعرون! إني أبتهل إلى الله تعالى أن يصلح حال أئمة مساجدنا الذين أكن لهم كل الحب والاحترام والتقدير.. وأن يهدينا وإياهم إلى تبصرة الحق ومن ثم اتباعه .. كما أدعو مكتب الأوقاف إلى أن يقوم برعايتهم بما يليق بمنزلتهم في قلوبنا.. وأن يعمل على تحسين أحوال معيشتهم وتيسير أمورهم الحياتية هم والقائمون على شؤون المساجد وخدمتها.. وعقد دورات التدريب المنتظمة للتوجيه والتوعية والإرشاد بما يحقق الأداء الصحيح والأمثل لرسالة المسجد العظيمة! وفي الختام دعونا نستمع ـ بدون ضجيج ولا صراخ ـ إلى كلام شيوخ أجلاء قالوا: ذكر الأئمة الأربعة كراهة رفع الصوت في المسجد إلا في التعليم، وعارضهم في ذلك الإمام مالك، وقال “حتى في التعليم فإنه لا يجوز”.. شيخ آخر حدث بعدم جواز الصلاة عبر الميكرفونات الخارجية .. كما أن كف الأذى عن الجيران ووجوب الإحسان إليهم من شعب الإيمان، وأن التشويش على المصلين يذهب الخشوع.
مساجدنا زمان واليوم
أخبار متعلقة