القول بأن الإسلام انتشر بالسيف، كانت إحدى النظريات الشائعة والسائدة في القرون الوسطى، غير أن العالم تجاوزها، وأصبحت هذه النظرية، أو هذه المقولة، يتم التعامل معها (كتاريخ) في الصراع بين ثقافات الأديان، وليس لها اليوم قيمة علمية.هذا لا يؤكده المؤرخون المسلمون فحسب، وإنما يؤكده أيضا المؤرخون الغربيون. توماس أرنولد، الذي عاش في نهايات القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين، وهو أحد المؤرخين الإنجليز المرموقين، أكد أن ( الإسلام) انتشر بثقافته، وقدرته على تلبية احتياجات الإنسان القيمية عندما نشر كتابه ذائع الصيت (الدعوة إلى الإسلام)، والمترجم إلى العربية، والذي أثبت أن (القوة)، أو السيف، في مفهوم (الفتح) الإسلامي، كان عنصراً (ثانوياً)، وليس (أساسياً) في انتشار الإسلام.. بمعنى أن عناية الإسلام بالمثل الأخلاقية العليا هي التي مهدت للإسلام (أولاً) بأن ينتشر، ليأتي الفاتحون المسلمون الأوائل ليجدوا أن ثقافة الإسلام قد سبقتهم، ومهدت لهم الطريق، ليتسنى لهم القطاف (عسكرياً)، وضم البلاد المفتوحة إلى الإمبراطورية الإسلامية.وقد ساق أرنولد من الأدلة والشواهد التاريخية ما يؤكد نظريته بحيادية وإنصاف الباحث المحقق المتمكن. يقول مثلاً: (لقد عامل المسلمون المسيحيين العرب بتسامح عظيم منذ القرن الأول للهجرة واستمر هذا التسامح في القرون المتعاقبة ونستطيع بحق أن نحكم أن القبائل المسيحية التي اعتنقت الإسلام إنما اعتنقته عن اختيار وإرادة حرة وأن العرب المسيحيين الذين يعيشون في وقتنا هذا بين جماعات مسلمة لشاهد على هذا التسامح. كما أورد ارنولد في كتابه رسالة كتبها البطريق يشوع ياف الثالث وبعث بها إلى المطران سمعان - رئيس أساقفة فارس تقول: (وإن العرب الذين منحهم الله سلطان الدنيا يشاهدون ما أنتم عليه، وهم بينكم كما تعلمون حق العلم، ومع ذلك فهم لا يحاربون العقيدة المسيحية، بل على العكس، يعطفون على ديننا، ويكرمون قسسنا، وقديسي الرب، ويجودون (بالفضل) على الكنائس والأديار، فلماذا إذن هجر شعبك من أهل مرو عقيدتهم من أجل هؤلاء العرب؟ ولماذا حدث ذلك أيضا في وقت لم يرغمهم فيه العرب - كما يصرح أهل مرو أنفسهم - على ترك دينهم، بل هم تعهدوا لهم أن يبقوا عليه آمنا مصونا إذا هم اقتصروا على أداء جزء من تجارتهم إليهم)!إضافة إلى حقيقة تقول إن الإسلام انتشر في إفريقيا السوداء، وكذلك في شرق آسيا، من خلال الدعوة التي حملها على عاتقهم التجار المسلمون، وسكان هذه التخوم اليوم يمثلون (عددياً) نصف عدد المسلمين في العالم، الأمر الذي يؤكد أن القول بأن الإسلام انتشر بالسيف نظرية (تتهافت) بمجرد تعريضها للبحث التاريخي العلمي.غير أن نظرية (أرنولد) هذه جوبهت (آنذاك)، ومازالت، وبالذات من قبل أصحاب الفكر (الجهادي) الثوري، بعاصفة من الرفض والتنديد والاحتجاج، واعتبروها مؤامرة كيدية (استعمارية)، هدفها تفريغ الإسلام من ( سنامه)، وقوته، وباعث انتشاره، وهو (جهاد الطلب). ولعل من المضحك أن (يحتج) على ما قاله البابا (أيمن الظواهري) تحديداً، مُنظر تنظيم (القاعدة) المشهور، وهو الذي ما فتئ يردد أن (السيف) و(العنف) و( الإرهاب)، هو السبيل الأهم لنشر الإسلام، والذي يمارسه بشكل عملي وعلني في (جهاده) الذي يدعيه!والغريب أن (البابا) عندما واكبهم مؤخراً، وكرر ما يقوله (الجهاديون الثوريون)، وما يدعون إليه، وذكر ( قولاً) يؤكد أن السيف (فعلاً) هو سبب انتشار الإسلام، كما ذكر في محاضرته الأخيرة، وهو - أيضاً - ما يؤكده للأسف - إذا لم تخني الذاكرة - بعض من (كبار علمائنا)، ثارت ثائرتهم، وتباروا في (التنديد) والرفض والاحتجاج، والتأكيد على (خطأ) ما قاله البابا، وأنه لا يمت للإسلام بصلة.وهذا - بالمناسبة - ما يؤكد (الفوضى الفكرية) العارمة التي نعيش في (ضبابيتها)، والتي دائماً ما أشير إليها في كتاباتي.. فإذا كان ما يقوله توماس أرنولد قولا مرفوضا، وما نقله (البابا) أيضاً في محاضرته قول مرفوض كذلك، فما هو المقبول (لديكم) أيها السادة؟!..ما تقدم، يثبت أن لدينا في الواقع خطابين متناقضين، واحد (للتصدير) إلى الخارج، في مواجهة الآخر، وخطاب آخر (للاستهلاك) المحلي، تسرب حتى إلى مقررات مناهجنا التعليمية، يتناقض شكلاً وموضوعاً مع ما نصدره للخارج. وعندما صغر العالم، وتقاربت المسافات بين الخارج والداخل بفعل ثورة الاتصالات، والمحطات الفضائية، والإنترنت، انكشفنا، وانكشفت (ازدواجية) خطابنا الدعوي، التي كنا نحرص كل الحرص على (تغطيتها). هذه هي الحقيقة التي أعرف سلفاً أنها ستثير علي الكثير من (الزوابع)، كما تعوّد كل من يحاول أن يلامس عللنا المعرفية.وبعيداً عن كل ذلك، وعن احتجاج المحتجين، وعن مزايدات المزايدين، يبقى السؤال: استورد البابا الجديد من غياهب التاريخ، ومن ثقافة القرون الوسطى، نظرية (انتشار الإسلام بالسيف)، رغم أن العالم، والبحث العلمي قد أثبت عدم صحتها، فما الذي دعاه إلى ذلك؟هذا هو السؤال.[c1]*عن / صحيفة (( الجزيرة )) السعودية[/c]
الإسلام و السيف
أخبار متعلقة