
من بين هذه الهمسات، تأتي حكاية جازم الحِروي، التي أعاد تقديمها الباحث بلال محمود الطيب في كتابه (جازم الحروي.. صانع تحول). هذه ليست مُجرد سيرة لرجل من الماضي؛ بل هي تقديم “حالة مضادة” لكل ما نراه اليوم. قصة تاجر يمني بسيط من الأغابرة، حوّل رحلة اغترابه الشخصية بين اليمن والحبشة إلى جسـرٍ عبرت عليه قضية وطن بأكمله.
لفهم عظمة هذا الرجل، يجب أنْ نتذكر أولًا بؤس الـواقع الذي ثـار عليــه. لم يكن جازم الحروي يُناضل ضــد مجرد نظام سياسي؛ بل ضد سجن كبير اسمه (الحكم الإمامـي)؛ سجنٌ جعل من الفقر والجهل والمرض حلمًا بعيد المنال، فكان هناك ما هو أسوأ: الاستبداد الذي يسحق الروح. في ذلك الزمن، لم يكن اليمني يحلم بالرفاه؛ بل كان أقصـى أحلامه أن يشعر بأنَّه إنسان.
في هذا المشهد القاتم، ظهر الحروي ليس كقائد يخطب في الجماهير؛ بل كقوة صامتة تعمل خلف الكواليس. كان لقاؤه في تعز برائدَي حركة الأحرار، أحمد محمد نعمان ومحمد محمود الزبيري، هو الشـرارة. استضافهما، واستمع، وآمن. لكنه لم يكتفِ بالإيمان؛ بل دفع بهما من دائرة النخبة إلى رحابة الشعب، قائلًا عبارته الشهيرة: “بدلًا من أن تظلوا تبعثرون أدبكم وأفكاركم في تقديس الحكام، اخرجوا نحو الشعب”. ثم موّل بنفسه عملية تهريبهما إلى عدن، ليبدأ من هناك فصل جديد ومُنظم في تاريخ النضال اليمني.
هذا الموقف لم يكن استثناءً؛ بل كان قاعدة حياته. حين تقرأ عنه، فأنت لا تقرأ عن بطل تقليدي؛ بل عن نموذج إنساني فريد. فعندما قرر رفاقه إهداءه ساعة ثمينة تقديرًا له، كان هو نفسه من دفع ثمنها سـرًا.
وحين دمر الإمام منزله الفخم في تعز، لم يصـرخ غضبًا؛ بل واجه المصور الذي أُرسل لتوثيق الشماتة بهدوء، طالبًا مهلة “ليصلح من هيئته، حرصًا على ظهور السلسلة الحديدية حول عنقه”.
هذا النبل بلغ ذروته في رحلة الأسـر المروعة إلى سجون تعز وحجة. هناك، وهو مكبل بالأغلال، لم يفكر في خلاصه؛ بل ابتكر ما سماه الزبيري (أنبل تضليل)؛ أخذ من رفاقه سندات دين وهمية ليقنع الجلادين بأنَّه غريب عنهم، ثم راح يرشوهم من ماله ليخفف العذاب عن رفاقه. شهادة القاضي إسماعيل الأكوع تلخص المشهد: “لولا أن يسـر الله بالأخ جازم… لكنا متنا جوعًا”.
لقد كان تأثيره عميقًا في من حوله. فالزبيري، الشاعر المرهف، لم يرَ فيه مجرد ممول؛ بل “ملاكًا طهورًا أنجبته الغمائم”، وخلّد مواقفه في قصائد أيقونية مثل: (مصحف جبريل) و(قيد جماعي). أما نُعمان، العقل المدبر للحركة، فوصفه بأنه “الداعم المالي الأكبر والوحيد للأحرار في الداخل”.
وحين نجا الحروي من مُحاولة اغتيال غادرة، لم يطالب بثأر؛ بل واصل تمويل صحيفة (صوت اليمن)، التي كانت صوت الأحرار الأول، وكأنَّ شيئًا لم يكن.
هذه القصة ليست مُجرد دعوة لقراءة كتاب؛ بل هي دعوة لتبني ما يمكن أنْ نسميه (الفكرة الحروية): إنَّ القيمة الحقيقية للإنسان ليست في حجم الأضواء المُسلطة عليه؛ بل في حجم الظلال التي يوفرها للآخرين. وأن التأثير الأبقى لا يُصنع بالصـراخ؛ بل بالعمل الصامت.
هذا الكتاب هو أكثر من سيرة؛ إنه بيان ضد ثقافة الاستعراض، وتمرد على الضجيج. إنَّه دعوة للبحث عن “جازم الحروي” الكامن في داخل كل واحد منا. ففي نهاية المطاف، الأوطان لا تُبنى إلا بأولئك الذين يتركون خلفهم أثرًا أبلغ من كل الكلمات، والذين لخصهم الشاعر عبد الله عبد الوهاب نعمان في وصفه للحروي بأبلغ بيت شعر: “كأني به قد كان يحسب نفسه… مثنى.. ولم يدرِ أنَّه كان واحدا”.
