تأثيرات مشاهد الحروب في الفضائيات على أطفالنا
ابتهال الصالحي تتكرر يوميا على شاشات القنوات الفضائية مشاهد القتل والدمار في فلسطين والعراق والصور المؤلمة لمعاناة الناس هناك وخاصة الأطفال الذين هم أكثر الشرائح عرضة وتأثراً جراء هذه الحروب والدمار الذي يطال كل شيئ ويقضي على أحلامهم وآمالهم في الحياة وكيف أثرت هذه الحروب والمشاهد التي يراها أطفالنا في اليمن.يواجه الأهل تحديات جمة في التعامل مع أطفالهم أثناء الحروب ليس في البلدان التي تدور فيها الحرب فحسب ، بل في البلدان التي تتابعها على شاشات التلفاز ففي كل الأحوال يحتاج الأطفال إلى معاملة خاصة من ذويهم سواء أكانوا ضحايا للحرب أم مجرد متابعين لها.ولاء أحمد (13 سنة) يحزنني كثيراً ما أراه في التلفزيون والصحف من صور لأطفال قتلى وجرحى وأجساد ممزقة أيام الحرب على غزة كنت أنام وأنا أبكي على أطفال فلسطين وأرى الكوابيس كل يوم وأحمد الله كثيراً إنني لست في فلسطين أو حتى العراق فلا استطيع أن أتصور أنني في بلد فيه حرب وأنني أنام ولا أعلم إذا كنت سأصحو في اليوم الثاني أم أنني سأقتل وأنا نائمة ولا استطيع أن أتخيل أن يخرج أبي للعمل صباحاً ولا أدري ما إذا كنت سأراه مرة أخرى أم أنه سيستشهد ولن يعود إلينا... تقول – أم نورا- لاحظت على ابنتي نورا (7 سنوات) أيام الحرب الأخيرة على غزة تأثراً شديداً وتغيراً في سلوكياتها بشكل ملحوظ حيث أصبحت حزينة عصبية المزاج لا تأكل وتصيبها اضطرابات في النوم وكوابيس مستمرة في بادئ الأمر لم استطع تفسير هذا التغير الذي طرأ عليها إلى حين وجدت في حقيبتها المدرسية قصاصات من الصحف لصور أطفال قتلى وجرحى كانت تقوم بجمعها وتشاهدها كلما استطاعت في غفلة منا.وعندما تحدثت معها عن سبب احتفاظها لهذه الصور فاجأتني بإجابة لم أتوقعها أبداً قالت: (حتى لا أنسى عندما أكبر ماذا عمل اليهود بالأطفال لأنني عندما أكبر سأقتل كل اليهود القتلة) صدمت بإجابتها وحاولت كثيراً أن افهمها الوضع على الرغم أنني في قرارة نفسي لم أكن مقتنعة بكلامي فكيف أفسر لها قتل الأطفال والنساء والدمار وبأي كلمات استطيع أن أخرجها من حالة الحزن والغضب الشديدين التي تمر بها على صغر سنها وقدرتها على الفهم واستيعاب الواقع المرير.[c1]أحلام متكسرة[/c]تحدثنا الاختصاصية النفسية- فتحية سروري: إن تأثيرات الحروب بالغة جداً على طاقة الطفل ذلك المخلوق الصغير قليل الخبرة والمعرفة حيث تنكسر أحلامهم التي تبدأ بالنمو مع نموهم ونضجهم في مراحل حياتهم المختلفة فيتذمر الأمل وتموت الأحلام بمستقبل مشرق يحقق طموحاتهم وأحلامهم الفتية وتأكيد ذاتهم في المجتمع ويمتد دمار الحروب إلى الجسد والنفس والمواهب والاتجاهات وكل معاني الإبداع لدى الطفل فإذا كان أبسط حقوق الطفل أن يتحقق له جو أسري سليم في إطار والدين وإخوة سعداء مطمئنين آمنين فإن الحرب تدمر كل الأسس والضروريات والاحتياجات الإنسانية بما فيها مراحل الطفولة التي يجب أن تكون خالية من الصدمات والعذاب والمعاناة النفسية وهذا ما تعانيه عينات كبيرة من أطفال فلسطين والعراق.وأشارت- سروري- إلى إن تعاسة الأطفال مضاعفة عند رؤيتهم لكل هذا الدمار في أوطانهم في كل ساعة ولحظة وهم ينتظرون المجهول كل يوم ويتوقعون الأحداث الدامية والموت القادم من البر والبحر والجو إنها لحظات رهيبة مرعبة لها أثر نفسي بالغ وقوي ومؤلم أكبر من قدرة تحمل عقول الكبار قبل الصغار كذلك من يقرأ ويشاهد عبر وسائل الإعلام المختلفة من صحف وتلفزيون وغيرها أنهم يتعايشون مع الوضع اللا إنساني فهو لا يقل درجة عن الأول فالمواقف الظالمة والمشاهد المرعبة للأطفال القتلى والجرحى لها أثر نفسي عميق في نفوس الأطفال...[c1]تحطيم الأجيال القادمة[/c]يحدثنا الدكتور سند محمد حيدر (معيد في قسم السلوكيات في كلية الطب رئيس الجمعية اليمنية للصحة النفسية) بقوله إن ما يهمنا في هذه الإطلالة هو التعريف بالأثمان النفسية الباهظة لهذه الحروب وبخاصة تلك التي يدفعها قطاع الأطفال من صحتهم الجسدية والنفسية فلا بد لنا من تحديد أبرز الاضطرابات والمشاكل النفسية للأطفال الذين خبروا الحرب ولا ندعي أن تلك الجوانب شاملة أو كاملة إلا أنها تساعدنا في تركيز البحث ومحاولة معالجة تلك الجوانب والتي من أهمها الجانب النفسي الذي يتمثل في الاضطرابات الكوابيس أحلام اليقظة المزعجة الخوف القلق العنف التوتر الإحباط التشاؤم والتمركز حول الذات كما أنه قد تصاحب هذه الصدمات حالات من الفوبيا المزمنة من الأحداث أو الأشخاص أو الأشياء التي ترافق وجودها مع وقوع الحدث مثل الجنود صفارات الإنذار الأصوات المرتفعة الطائرات وفي بعض الأحيان يعبر الطفل عن هذه الحالات بالبكاء أو العنف أو الغضب والصراخ أو الانزواء في حالات من الاكتئاب الشديد إلى جانب الأعراض المرضية مثل الصداع المغص الصعوبة في التنفس التقيؤ التبول اللا إرادي انعدام الشهية للطعام قلة النوم الكوابيس آلام وهمية في حال مشاهدته لأشخاص يتألمون أو يتعرضون للتعذيب.وفي حال مشاهدة الطفل لحالات وفاة مروعة لأشخاص مقربين منه أو جثث مشوهة أو حالة عجز لدى مصادر القوة لدى الطفل ((الأب والأم على سبيل المثال)) يصاب الطفل بصدمة عصبية قد تؤثر على قدراته العقلية.وغالباً ما تظهر المشاعر التي يختزنها الطفل أثناء اللعب أو الرسم فنلاحظ أنه يرسم مشاهد من الحرب كأشخاص يتقاتلون أو يتعرضون للموت والإصابات وأدوات عنيفة أو طائرات مقاتلة وقنابل ومنازل تحترق أو مخيمات ويميلون إلى اللعب بالمفرقعات أو بالمسدسات واقتناء السيارات والطائرات الحربية... وتمتلئ مشاعر الطفل بالعنف والكراهية والشك أو اليأس والقلق المستمر.ويضيف (حيدر) لا تحمل الحروب في أحشائها سوى الألم والموت والمعاناة للأنفس البريئة ويعتبر السلاح الأول فيها هو سلاح التدمير النفسي الذي إن لم يدمر المحاربين المهيئين لذلك فسيدمر بالتأكيد التوازن النفسي للمدنيين وعلى وجه الخصوص الأطفال وهكذا الحروب دائماً يخوضها الكبار ويقع ضحية لها الصغار وكبار السن والنساء.ولعلنا في العالم العربي لا نعطي اهتماماً كبيراً للرعاية النفسية والوسائل المطلوبة لاحتواء ردة فعل الصدمات على الأطفال في حين أن غالبية المختصين يؤكدون أن أخطر آثار الحروب هو ما يظهر بشكل ملموس لاحقاً في جيل كامل من الأطفال سيكبر من ينجو منهم وهو يعاني من اضطرابات نفسية. كما أن أخطر آثار الحروب على الأطفال ليس ما يظهر وقت الحرب،بل ما يظهر لاحقاً في جيل كامل ممن نجوا من الحرب وقد حملوا معهم مشكلات نفسية لا حصر لها تتوقف خطورتها على قدرة الأهل على مساعدة أطفالهم في تجاوز مشاهد الحرب.وفي هذا الصدد يقول كاريل دي روي- أحد ممثلي الأمم المتحدة الذين عملوا في العراق بعد أن وضعت الحرب أوزارها:(هناك5.7مليون طفل عراقي في المدارس الابتدائية ونتوقع أن يحتاج10 % على الأقل من هؤلاء الأطفال إلى علاج نفسي من الصدمات النفسية التي تعرضوا لها خلال الحرب .)وعموماً يقول المختصون في الصحة النفسية والطب النفسي أن الصدمات التي يتعرض لها الطفل بفعل الإنسان أقسى مما قد يتعرض له من جراء الكوارث الطبيعية وأكثر رسوخاً بالذاكرة ويزداد الأمر صعوبة إذا تكررت هذه الصدمات لتتراكم في فترات متقاربة..ومن معوقات الكشف عن هذه الحالات لدى الأطفال هو أنه يصعب عليهم التعبير عن الشعور أو الحالة النفسية التي يمرون بها بينما يختزلها العقل وتؤدي إلى مشاكل نفسية عميقة خاصة إذا لم يتمكن الأهل أو البيئة المحيطة بهم من احتواء هذه الحالات ومساعدة الطفل على تجاوزها.ومن أهم الحالات التي يتعرض لها الأطفال خلال الحروب: سوء التغذية في المناطق الفقيرة،المرض،التشرد،اليتم والفواجع،المشاهد العنيفة،الإرغام على ارتكاب أعمال عنف،الاضطراب في التربية والتعليم.فالآثار السلبية لتلك المشاهد لا تنتهي بنهاية مرحلة الطفولة،بل تشكل منظاراً يرى الطفل العالم من خلاله،ولأن الأطفال لا يفهمون مبررات الحرب كما يفعل الكبار،فإنه لا سبيل أمامهم للتعبير عن تأثرهم بما يعانون ويعايشون ويرون من تلك الحرب إلا الانطواء والتوجس أو التبلد أو العدوانية.[c1]أهم المعالجات واستراتيجيات التدخل[/c]وبعد أن تقع الكارثة لابد من محاولة وضع الحلول والتي يلخصها الدكتور سند حيدر في:- فتح دور للرعاية الصحية النفسية الأولية وهو ما يعرف بالطوارئ النفسية،وبعدها رسم أو وضع خطط لتقديم العلاج النفسي وبالضرورة تعيين متخصصين أكفاء للتدخل.- مساهمة قطاع التربية والتعليم من خلال تخصيص حصة دراسية ضمن مناهج الأطفال في الفصول الأولى لتهيئتهم لتقبل الأمر من دون صدمات أو آثار مترسبة بدلا من تركهم عرضة لمشاهدتها على شاشات التلفاز.- على الأهل في حال تعرض الطفل لظروف مروعة أن يبدؤوا مباشرة بإحاطتهم بالاطمئنان ولا يتركوهم عرضة لمواجهة هذه المشاهد من دون دعم نفسي وذلك عن طريق الحديث المتواصل معهم وطمأنتهم بأن كل شيء سيكون على ما يرام وأنهم لن يصيبهم شيء مع التركيز على بث كلمات من الحب أو تشتيت فكرهم عن التركيز في الحدث المروع خاصة في أوقات الغارات المخيفة في حال وقوعها على مقربة منهم..فهذه اللحظة هي الأهم في حياة الطفل النفسية وكلما تركناه يواجهها وحده ازداد أثرها السلبي بداخله على المدى القريب والبعيد.الأطفال الأكبر سناً يمكن مناقشة ما يجري معهم وإقناعهم بأنهم في مكان آمن أو أن القصف لن يطالهم وأن الأهل اتخذوا كافة الاحتياطات لحمايتهم،مع ضرورة عدم منعهم من البكاء أو السؤال عن ما يجري والحديث عنه فمن الضروري أن نعرف ما يدور في تفكير الطفل ونترك لمشاعرهم العنان في هذه الأوقات حتى لا تتراكم الصدمات ويمكن تشجيعهم بمبادرة من الأب أو الأم على الحديث عن مشاعرهم مع اختيار الأسلوب والألفاظ التي يمكن للطفل استيعابها والتجاوب معها.- تعزيز الجانب الروحي والعقائدي عند الأطفال،حيث يكفل للإنسان الاطمئنان فيمكن التجمع في اللحظات العصيبة لقراءة القرآن أو الصلاة الجماعية والدعاء،وزرع الإحساس داخل الطفل بوجود قدرة إلهية عظيمة قادرة على نجدته في هذا الوقت من أي شيء مهما كان قوياً مروعاً لمساعدته على تجاوز حالة الخوف والعجز وكذا المساهمة في استعادته لثقته بنفسه وبالعالم من حوله وعدم فقدان الأمل.[c1]جيل أكثر قوة[/c]التأثير السلبي لأجواء الحروب على الأطفال يكاد يكون أمراً مسلماً به،لكن على الجانب الآخر هناك من يرى في تلك الأجواء شيئاً من الإيجابية،إذ يشير بعض التربويين إلى أن الجيل الذي يعيش تلك الأجواء سيكون أكثر قوة وقدرة على التحمل شرط أن يكون وراء هؤلاء الصغار أسر واعية تشرح لهم ما وراء مشاهد الحرب التي يعيشونها،ولذلك من المهم أن لا يجلس الطفل بمفرده أمام نشرات الأخبار في التلفاز،بل لا بد من وجود بالغ بجواره يشرح له دلالة الأحداث وما وراءها.[c1]ختاما[/c]تفجر الحروب لدى الأطفال على مختلف مستويات أعمارهم أزمة هوية حادة،فالطفل لا يعرف لماذا يتعرض لهذه الحرب وما تخلفه من آلام أما الأطفال الأكبر- الفتيان- فيجدون أنفسهم أكثر عدوانية للعدو ويتملكهم الرغبة في الانتقام ووجوب الدفاع عن أنفسهم وأهاليهم ولو عرضهم ذلك للخطر،وحتى إذا لم يفعل الأطفال ذلك فإنهم يجدون أنفسهم في حالة من التشرد والفقر وتفوق قدرتهم على الاستيعاب خصوصاً على التعبير الجيد عن المشاعر والرغبات الإيجابية السوية إلى مشاعر ورغبات تتمثل في مجملها في غضب وعدوانية ورغبة في الانتقام والخوف من القادم وما تغذيه من مشاعر دفينة تظهر في مراحل متقدمة من أعمارهم في صور عصبية وانطواء وتخلف دراسي وغيرها من الأعراض.الجيل الفلسطيني الذين تفتحوا مع الانتفاضة الأولى(1987)أصبحوا الآن شباباً،يقودون الانتفاضة الثانية ولم يعد يخيفهم الموت،بل يسعون إليه،ففي دراسة ميدانية خلال انتفاضة الأقصى- حول تأثير الحرب في الأطفال الفلسطينيين- تبين أن75% من فتيان وفتيات فلسطين يحلمون بأن يصبحوا شهداء.