د . هشام محسن السقافعن موت (فيصل علوي) مدرسة لحج الغنائية في طورها الثالث؛ في يوم الأحد الحزين السابع من فبراير 2010م؛ لا أجد ما يمنعني من التطواف في موكب الحزن النبيل، كأني أحد أولئك الزهاد الذاهبين تيهـا في ملكوت الله. ولا أجد ما هو أكثر من حد هلامي يفصل بين حياة المبدعين وعظمة رحيلهم، فلعلهم يرحلون ولا يرحلون؛ ولا يفي الموت بالتزامات الفناء إلا في حدوده الفسيولوجية، إذ تفنى المادة شكلا وتبقى التضامين الروحية بمدلول (الحسي) الخالد في ثنايا النص الإبداعي؛ الصورة غير المتكررة أو المنسوخة، إلا ما يكون من أمر التراكمات فيها؛ التي هي بمثابة هرم إنساني كبير، تتبدل تفاصيل قمته باستمرار مصداقـا لقول هراقليطس (الثابت الوحيد التبدل المستمر).وحين نستمد لحظتنا التأملية من الموت لاستشراف الحياة في سيرة فنان مثل فيصل علوي وهب الوجود الغنائي سمات الدوام، باختلاجات نفس مكرسة للفن والموسيقى من الرأس حتى أخمص القدمين وبالفطرة المبهرة التي يصقلها العناء والمران الدؤوب، فإنني استرجع ما أورده المفكر العربي واليمني المعروف (أبوبكر السقاف) في سياق حديثه عن (بلوك) :(كان بلوك يكثر من الحديث عن الموسيقى، وهي في نظره مرادف لذلك الشيء الأساسي، في العمل الفكري والفني، الذي يجعل الشيء ما هو عليه، الروح التي تسري في الجهد الإنساني، وتجدها في أجزائه، وفيه ككل واحد، والموسيقى بالدلالة المحددة، شيء كهذا، وهنا قوتها وضعفها، كما يبدو لي كمتذوق) (كتابات 1، عدن، 1981م، ص 225).وفي دورة الغناء الثالثة في لحج، يبدد (فيصل) مقولات الثورة التي تطغى على مفردات الإبداع والفن، إذا احتسبنا أن ريادته للأغنية في لحج تبتدئ وفترة التأصيل لشرعية الثورة في الدولة الجديدة برؤية التجريب الثوري الذي ساد.ففي غمرة اكتشاف الأصوات الغنائية الجديدة بمسعى حثيث من ندوة الجنوب الموسيقية والندوة اللحجية، صعدت الأصوات المبهرة في سماء الأغنية في لحج : محمد صالح حمدون، عبدالكريم توفيق، محمد عوض شاكر، مهدي درويش، فيصل علوي سعد، ومحمد علي رزق. وامتاز ابن (الشقعة) فيصل علوي بتلك النشأة الفنية في بيت ضمت أركانه أدوات الطرب المعروفة وحصافة رب الأسرة المتشرب ثقافة عصره. وستظل عصارة ذاكرة فيصل تتذكر بكثير من الاعتزاز آصرة الانتماء للأرض الزراعية، وتجلياتها في الضمير الشعبي للقاطنين على ضفاف وادي تبن، ومنهم الطفل الأسمر صاحب الحنجرة الذهبية.يقول فيصل : (فيصل علوي من الريف، أنا ريفي للعلم ليس من العاصمة الحوطة، وأيضـا من أسرة دينية ووالدي فنان، أنا ترعرعت وشربت من دلتا تبن، من مناهل كثيرة، والصوت هذا شيء هبة من الله، لا دراسة ولا علم) (صحيفة “النداء” العدد 227، 8 مارس 2010م).عندما يصدح فيصل بصوته الواعد، وتتلقفه أيدي الفنان الكبير صلاح ناصر كرد بعد أن بلغه خبر الموهبة الجديدة، ويسبر صوته - فيما يشبه الاختبار - بأدائه اللحن اللحجي القمنداني (ليتني وا حبيبي) تأتيه التحية :كلمات من نظم الأديب والشاعر أحمد عباد الحسيني ولحن صلاح كرد، وهي الأغنية الأولى لفيصل التي - للأسف - لم تسجل في الإذاعة ومطلعها :إنه الوجـــه الجديـد [c1] *** [/c] صاحب الصوت الفريدجاء يحيي من جديد [c1] *** [/c] فن هـــارون الرشيـــدثم غنى فيصل بعد ذلك أغنيته الشهيرة (باسألك بالحب يا فاتن جميل) التي عرفه بها الجمهور، وهي من كلمات الحسيني نفسه وألحان كرد (راجع كتاب : من تاريخ الأغنية في لحج وعدن وأبين، محمد بن محمد ناصر العولقي، ط 1، 2005م).ويتدفق نهر الغناء بامتياز الموهبة الفذة لفيصل في أوقات عصيبة بعد توقف الندوتين الموسيقيتين واستشهاد العبقري فضل محمد اللحجي ووفاة صلاح ناصر كرد، حافظـا لنا الأغنية القمندانية التي سكب عليها من فيض روحه الموسيقية وجدد فيها بامتياز.وقد لا يفطن البعض لموهبة التلحين والتأليف الموسيقي لفيصل علوي سعد الذي خلف لنا مكتبة موسيقية بين دفتيها أكثر من 200 من الألحان الشجية التي ترقص حتى الأطيار في السماء.رحم الله فناننا الرائع فيصل علوي.. ملك الأغنية الشعبية غير المنازع.[c1] *جزء من دراسة أعدها الكاتب لكتاب التأبين الخاص بفقيد الأغنية اليمنية فيصل علوي سعد.[/c][c1] *** [/c]
أخبار متعلقة